شريعة القوة لا شريعة الحق

شريعة القوة لا شريعة الحق

18 اغسطس 2017
+ الخط -
ما بين تهديدات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لكوريا الشمالية، بأنها ستواجه "نارا وغضبا لم يرهما العالم قط" إن استمر رئيسها، كيم جونج أون، في توجيه تهديداتٍ إلى الولايات المتحدة، وتهديدات الأخير إطلاق أربعة صواريخ باليستية صوب جزيرة غوام الأميركية غرب المحيط الهادئ، إن استمر ترامب في استفزازاته، ما بينهما تجد حقيقة القانون الذي يحكم العالم اليوم، إنه قانون القوة، والقوة فحسب. طبعا، لا ينبغي هنا أن نسقط في حبائل الوَهْمِ، لناحية المقارنة بين قدرات الولايات المتحدة وكوريا الشمالية وإمكاناتهما، حيث أنه لا مجال أبدا للمقارنة بين الدولة الأعظم عسكريا والأقوى اقتصاديا وواحدة من أفقر الدول وأكثرها عزلة، بل لا تكاد مساحتها الجغرافية تضاهي ولاية أميركية متوسطة الحجم. ولكن المقارنة السابقة لا تعكس حقيقة المشهد كله، فكوريا الشمالية تتمتع بقدراتٍ عسكرية عالية، ومنها نووية وصاروخية، وثمّة شكوك أنها قد تمكّنت من تصنيع رؤوس حربية نووية صغيرة، يمكن تحميلها على صواريخ باليستية قادرة على ضرب الجزر الأميركية في المحيط الهادئ، كهاواي وغوام. الأخطر أن التقديرات العسكرية تفيد بأن كوريا الشمالية ستملك القدرة على تحميل صواريخ برؤوس نووية قادرة على ضرب الولايات الأميركية الواقعة على شواطئ الهادئ الغربية، وتحديدا ولاية كاليفورنيا.
ما سبق هو بيت القصيد، فالولايات المتحدة قادرة على سحق كوريا الشمالية تماما، لكن الأخيرة قادرة على إيقاع أذى كبير بأميركا وحلفائها، وتحديدا كوريا الجنوبية واليابان. لذلك، لا تستغرب وأنت تتابع الطرفين المتنابزين، وهما يحاولان أن ينزلا عن شجرة التصعيد التي تسلقاها، فحسابات الواقع أكثر تعقيدا من عنتريات ترامب وكيم، فترامب الذي أشار إلى كيم بقوله: "إذا تفوه بتهديد واحد... أو إذا فعل أي شيء فيما يخص غوام أو أي مكان آخر يتبع الأراضي الأميركية، أو حليف لأميركا، فسيندم حقا وسيندم سريعا"، هو نفسه الذي قال، بعد تراجع كيم عن إطلاق الصواريخ نحو غوام: "أخذ كيم جونج أون قرارا حكيما جدا ومعقولا..
كان ممكنا أن يكون البديل كارثيا وغير مقبول". وكيم الذي كان يرعد ويزبد في تهديداته "للأحمق ترامب" هو نفسه الذي انتهى به الأمر إلى القول: "إذا استمر الأميركيون في أفعالهم المتهورة البالغة الخطورة بشأن شبه الجزيرة الكورية، والمناطق المجاورة لها، واختبار ضبط النفس لدى جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية (كوريا الشمالية)، فسوف تتخذ الأخيرة قرارا مهما، مثلما أعلنت بالفعل". المفارقة الأكبر أن ثمّة تقارير تؤكد أن الطرفين يخوضان محادثاتٍ ديبلوماسية عبر قنواتٍ خلفية لنزع فتيل التوتر بينهما، وتجنيب المنطقة حربا نووية مدمرة. ووجدنا ترامب، حامل العصا الغليظة، يقول: "ما من أحد يحب الحلول السلمية أكثر من الرئيس ترامب".
إذن، هي شريعة القوة لا الحق، أو إن شئت فهي شريعة الغاب، أين يحسب كل حيوان مستوى الخطر الذي سيترتب على محاولته الظفر بفريسةٍ ينقض عليها. يدرك كيم أن حربا مع أميركا ستعني نهاية نظامه، وتدمير بلده تدميرا فظيعا. ولكنه يدرك أيضا أنه من دون قوة رادعة قادرة على إدماء مقلة السبع الأميركي، فإن مخططات إسقاطه، بما في ذلك العسكرية، لن تجد كابحا يضبطها. ولذلك عكف نظام أبيه وجده على تعزيز الترسانة العسكرية لدولتهم، وصولا إلى السلاح النووي. واليوم، في قبضة نظام كيم قرابة 130 ألف مواطن أميركي يقيمون في كوريا الجنوبية، وقرابة 30 ألف جندي أميركي آخرين منتشرين في المنطقة الحدودية بين الكوريتين، فضلا عن وقوع 170 ألف مواطن أميركي و12000 جندي آخرين، في مرمى صواريخ كوريا الشمالية في جزيرة غوام الأميركية. هذا كله في كفة، وقدرة نظام كيم على حرق اليابان وكوريا الجنوبية، حتى بصواريخ وقذائف تقليدية، بسبب القرب الجغرافي، في كفةٍ أخرى. وهذا هو بالذات ما دفع رئيس كوريا الجنوبية، مون جيه، إلى مطالبة ترامب بتخفيف حدّة التوتر مع كوريا الشمالية، معلنا معارضته نشوب حرب في المنطقة، وهو ما دفع آلاف المتظاهرين في العاصمة الكورية الجنوبية، سيول، إلى الهتاف: "ترامب.. اخرس".
الآن، قارن سياق الأحداث في الأزمة الأميركية- الكورية الشمالية، طبعا من دون استبعاد أن تتطور إلى حربٍ قد تقع جرّاء حسابات خاطئة من أي طرف.. قارن ذلك بما وقع مع العراق
عام 2003، عندما غزت إدارة جورج بوش الابن ذلك البلد بزعم امتلاكه "أسلحة دمار شامل". شنت الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا، حينها، عدوانهما على العراق، متحديتين القوانين والقرارات الدولية. هذا معروف. ولكن السؤال: هل لو تيقنت الولايات المتحدة وبريطانيا، حينئذ، أن نظام صدام حسين يملك "أسلحة دمار شامل"، أكانا شَنَّا العدوان عليه فعلا؟ الحقيقة أننا نعرف الإجابة على هذا السؤال أيضا، خصوصا بعد أن ثبت أن إدارة بوش وحكومة توني بلير فبركا مزاعم امتلاك العراق تلك الأسلحة. ولو علما أنه يملكها، أو اشتبها في ذلك، لربما ما وقع العدوان، ولكنا رأينا التردّد نفسه الذي نراه في التعاطي مع كوريا الشمالية اليوم.
إنه قدر الضعفاء قليلي الحيلة والقدرات العسكرية أن يتمسّحوا بـ"القوانين الدولية" و"القرارات الدولية"، لكنها لن تحمي أحدا، كما أنها لم تحم العراق وغيره، كما في حالة الفلسطينيين على مدى العقود السبعة الماضية. أما من فهموا المعادلة، ككوريا الشمالية وباكستان، ويبدو أن إيران تسير على خطاهما، فإنهم أكثر تحصينا من عدوان الأقوياء، مع التأكيد، مرة أخرى، أن هذا لا يعني انتفاء إمكانية وقوع حربٍ بينهم، ولكنه يحدّ منها ومن مداها. ثمّة توازن رعب وردع نووي بين الكبار، كأميركا وروسيا والصين، وثمّة دروع صلبة يقيمها الأقل قوة، ككوريا الشمالية، وثمّة من ليس لهم قوة ذاتية، ولا ظهير ولا سند، كالعرب اليوم. ولذلك، تجد جدراننا من أقل الجدران ارتفاعا، وهو ما يسمح لكل طامع أن يتسلقها ويقفز إلى داخل الدار لينهب ويغتصب كيف يشاء. فكيف يكون الحال إن علمنا أن في الدار من هو متواطئ مع العدو الخارجي، لتمكينه من الأعراض والحرمات فيها؟