أكتب عن أشياء لا تهم الأفيال

أكتب عن أشياء لا تهم الأفيال

17 اغسطس 2017

(ياسر صافي)

+ الخط -
أكتب عن حلم جاءني في الستين، وأعادني محباً من جديد، إلى درجة أنني كنت أحسد نفسي في الحلم. أكتب عن موت "عم حسين السيد" الذي كان ينبهر بالولاعات الصينية، عجيبة الشكل، في يوم شرائها ويظل يدللها. وكلما قابلته، يكون معه واحدة أخرى، فأذكّره بالسابقة، فيقول لي: ياه يا حكيم.. أنت فاكرها؟.. أكتب عن الكذب وأثره، وخصوصاً لو كوّن بقعة سوداء جميلة في القلب، ولا سيما في قلوب الساسة، والقبعة وقد صارت تحتاج أخوات أخريات أكثر منها سواداً، كي يربط صاحب القبعات نفسه بنقطةٍ عاليةٍ في جبال الأولمب. أكتب عن "كسرة ما" في عين ترامب فيها أربعة مليارات دولار من الذل، وبرجان في مانهاتن مثلاً. أكتب عن بغداد التي لم أرها، ولكني شممت غدرها وأساها وجفوتها في كتب الجاحظ. أكتب عن مسجدٍ في البنغال، وجدت بجواره غجريةً تركب بغلاً، وتسوق بغلاً، وفي رجليها فردتا خلخال من الفضة، وفي عينيها كحلٌ، يشبه تماماً حلاوة الكحل الذي شرب من عرق "عرباوية" من واحة سيوة، جاءتني في الحلم من سنوات.
أكتب عن عربات الكارو القديمة، بعدما تكوّمت في الشواني المغلقة من سنوات، كخشب قديم ومهمل وخيوط العناكب تملأ عجلاتها. أكتب عن "محافظ الفلاحين" في أسواق الثلاثاء، وهي محاطة بالكباسين وآثار العرق وروائح أخرى تشبه عرق الكلاب أو الأطفال. أكتب عن الناس التي تجلس إلى آخر السوق، من غير أن تشتري أو تبيع، ولكن روحي تسكن لهم، ولا تحب غلظة التجّار، وخصوصاً تجّار تقاوي البرسيم. أكتب عن الزرع، حينما يصير بوصاً يابساً وتشيله الجمال للبيوت والأقمنة. أكتب عن لسعة البرد ودود المش وهو ينط فرحان فوق كسرات الفلاحين مع الغداء.
أكتب عن الفلاحين، حينما تختلس الحمير من الوقت فاصلاً صغيراً للذة، وتتقارب، فيضحك الفلاحون في العمل، وتهتز العيدان في الغيط. أكتب عن ثعبان مازال يطل لي، إلى الآن، بعد خمسين سنة في أثناء ما كنت أملأ "القلة" من الطولمبة في الغيط، وجاء هو زاحفاً في مياه مجرى صغير، يوصل ما بين الطولمبة و"خور واطي"، تنبت فيه شجرة سنط، كانت مليئة دائماً باليمام. عاد الثعبان إلى الوراء فور سماعه خشخشة الماء في القلة، وأنا ظللت مقيداً. أكتب عن سيف الله مختار مع عبده نصحي، ولاعبين قدامى، أغلبهم من نادي الزمالك، وقد كبروا وشابوا، وما زالوا متمسكين بحلاوة اللعبة وناسها وسيرتها في بار رخيص في السيدة زينب، له درجات تأخذك إلى أسفل، وسيف الله مختار يجلس حزيناً أغلب الوقت، وإن ضحك فبفتور، ولا "يصهلل" إلا في آخر الليل. أكتب عن سيدة عجوز كانت تبيع الحبال في سوق الثلاثاء، وكأنها كانت تعدّد ساعتها، وهي تكلم ابنتها بجوارها وهي تضحك، وهي تبيع المقاطف والسعف، وتقول: "قال قلبي على ابني انفطر، واتاري قلب المعدول كان حجر". أكتب عن النسمة، وقد راقت ومالت ولانت فوق كوز القطن في الغيط ونحن نجني، وحجر أبي قد مال بالقطن كالمحمل من الثقل، وهو يتلو: ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرّراً.. ثم يبدأ في العديد من غير سبب:
"أنا كل ما أقول تتعدل/ يجيني الورق/ مسجل/ تبه صبية وتتهجل".. يا عيني.

دلالات