شرق أوسط جديد منزوع العقيدة

شرق أوسط جديد منزوع العقيدة

17 اغسطس 2017
+ الخط -
مع دخول العالم الألفية الثالثة، ظهرت قناعة أميركية بأن الوقت حان لبداية قرن تنفرد فيه الولايات المتحدة بقمة العالم، بعد أن شهدت نهايات القرن العشرين تغييرات حادة تمثلت فى سقوط الاتحاد السوڤييتي، وظهور أفكار جديدة، من أبرزها كتابات صامويل هنتينغتون عن صراع الحضارات، وفرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ.
في ذلك الوقت، بدأ الحديث عن ضرورة البدء بإعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط، وجاءت الإرهاصات الأولى بشكل عنيف وحاد، في أعقاب أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001، حيث كان رد الفعل المباشر والسريع شن حرب شاملة ومنسقة على أفغانستان، غرضها إسقاط نظام إمارة طالبان الإسلامية، والقضاء على تنظيم القاعدة. وقبل مضي ثلاث سنوات على غزو أفغانستان وإسقاط "طالبان"، وبالتحديد في مارس/ آذار 2003، شنت أميركاً حرباً جديدة لاحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين الذي سبق أن أعلنت أنه أحد أضلاع محور الشر في العالم.
تصورت أميركا بغزوها أفغانستان واحتلال العراق وإسقاط نُظم الحكم "الشريرة" أنها مهدت الطريق إلى طرح مشروعها وتنفيذه لإعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط، لتتوافق مع متطلبات الاستراتيجية الأميركية للقرن الحادي والعشرين، والتي كانت، وما زالت، ترى في الشرق الأوسط، فى ظل نُظم الحكم الاستبدادية التي تسوده، ملكية رجعية أو جمهورية قومية، ومعها باقي مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، أنه يمثل التهديد الرئيسي للحضارة الغربية، 
بعدما زال التهديد الذي كان يمثله الاتحاد السوڤييتي السابق، والسبب الرئيسي أن تلك النظم الاستبدادية التي تحكم الشرق الأوسط تُفرز ثلاثة أنماط من التهديدات الخطرة على الغرب المتحضر: موجات الهجرة غير الشرعية من تلك البلدان إلى بلدان الغرب، المجموعات والتشكيلات العصابية التي تُمارس التجارة المحرمة بمجالاتها الثلاثة، تجارة المخدرات والسلاح والبشر. التهديد الثالث، وهو الأخطر، وركزت عليه قمة الثماني في العام 2004 الذي اعتمدت فيه مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا، هو ما تفرزه النظم الاستبدادية وأساليبها القمعية من أشكال متباينة من التطرّف الإسلامي الذي يؤدي إلى الإرهاب بمستوياته المختلفة.
لم تستجب دول الشرق الأوسط للمشروع، واتبعت أساليب المراوغة والمماطلة، وعملت بطرق مباشرة، وغير مباشرة، على عرقلة المشروع الأميركي في العراق، وإفشاله كنموذج، ما دعا إدارة الرئيس جورج بوش الابن، فى فترة ولايته الثانية، إلى إعادة النظر في مشروعها، وأدواتها للتغيير، وأعلنت عرّابة المشروع كونداليزا رايس التي أصبحت وزيرة للخارجية الأميركية في الولاية الثانية لبوش مشروعها المعدل، بمسمى الشرق الأوسط الجديد، مع استبعاد فكرة التغيير بالقوة من الخارج، أو التغير بالإصلاح من داخل النظم نفسها، ولكن يتم التغيير عبر نشر الفوضى "الخلاقة" في دول المنطقة، بحيث تتمخض عنها نُظم جديدة، لا مركزية، وبلا أيديولوجيات قومية، أو عقائدية.
وبدأت اللعبة من خلال إشعال حروب صغيرة، منخفضة المستوى، لكنها ذات تأثير كبير على خلخلة المنطقة، بدأت بسلسلة الحروب الإسرائيلية اللاتناسقية على لبنان، ثم قطاع غزة في عامي 2006 و2008، والتي اتسمت بالعنف المفرط، خصوصاً ضد المدنيين والبنية الأساسية من مرافق ومساكن ومنشآت، وأسفرت عن قتلى وجرحى بالآلاف، وهو ما أحدث حالة من الاضطراب في المشهد العربي كله. وازداد قلق نُظم الحكم المستبدة، فأحكمت قبضتها على السلطة، بزيادة عمليات القمع وفرض حالات الطوارئ والأحكام العرفية.
وكانت كونداليزا رايس قد أعربت عن ارتياحها لما يجري، من خلال تصريحاتها مع بدء العدو الإسرائيلي حربه على لبنان في العام 2006، والتي قالت فيها إن تلك بداية الفوضى الخلاقة لتشكيل الشرق الأوسط الجديد. وبدت المنطقة، في العام 2010، وكأنها على حافة بركان، وقاب قوسين أو أدنى من حالة "الفوضى" التي لا يدري أحد ما إذا كانت ستكون خلاقة أم مدمرة. وقبل أن يودع الشرق الأوسط ذلك العام، انطلقت رياح الربيع العربي، والذي كان في بدايته مبشراً بالتغيير السلمي. ولكن لأن القوى المحركة له لم تكن على درجة كافية من النضج والوعي، سرعان ما تراجعت تحت ضغط الثورات المضادة الأكثر حنكة وتنظيماً. وهنا أدركت أميركا والغرب أن موجات الربيع العربي ستنكسر حتماً على صخور الثورات المضادة، والتي ستعود بالمنطقة إلى أسوأ مما كانت عليه من استبداد وطغيان، وهو ما يكرس التهديدات الحضارية للغرب من جديد.
كان الحل كما رأته أميركا، تحت إدارة الرئيس باراك أوباما الديموقراطية، أن تعود إلى نظرية كونداليزا رايس، وتعمل على نشر "الفوضى الخلاقة" في المنطقة، خصوصاً وأن عناصرها أصبحت متوفرة، فهناك جماعات وحركات وتنظيمات ثورية وشعبية مُحبَطة، في مواجهة نظم حكم الثورات المضادة، وسيؤدي الصدام بينهما حتماً إلى الفوضى. وبالفعل، عمت الفوضى أربع دول عربية رئيسية، العراق وسورية وليبيا واليمن، وكان العنوان الرئيسي في هذه الدول هو "الإرهاب"، واقترب تهديده بالفعل من دول أخرى رئيسية، أبرزها مصر والسعودية، ما يجعلها تقترب من حالة "الفوضى". وفي ظل هذه الظروف، وصل إلى البيت الأبيض رئيس من طراز غير مسبوق، رجل أعمال، مخضرم، جمهوري، يميني، شعبوي، والأهم مخادع ماهر، هو دونالد ترامب. وبالطبع وصلت معه إدارة أميركية جمهورية تحفظ توازن مؤسسات الدولة، وتمسك بزمام الاستراتيجية الأميركية العليا.
تداعت الأمور بسرعة كبيرة، أعلن ترامب عن استراتيجيته تجاه الشرق الأوسط، الحرب على الإرهاب "الإسلامي"، وعلى الجميع دعم تلك الحرب طبقاً للرؤية الأميركية، ليكونوا في مأمن من غضب أميركا، كما أن على الدول النفطية، خصوصاً السعودية، أن تدفع مقابل توفير الحماية الأميركية لنظم الحكم فيها.. هكذا، تصريحاً وليس تلميحاً.
وصلت الرسالة، وكان التحرك من الدول المعنية بالخطاب الأميركي سريعاً، زيارات ولقاءات قمة في البيت الأبيض، ثم دعوة ترامب لزيارة الرياض، وعقد اتفاقيات بمئات مليارات
الدولارات، وعقد القمم الخليجية، والعربية الإسلامية، لتأكيد التوافق مع رؤية ترامب لمحاربة الإرهاب "الإسلامي"، وأيضاً لدعم مشروعه لصفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية.
غادر ترامب الرياض إلى تل أبيب، وهو يشعر بالسعادة بما أنجز، وأيضاً غادر الملوك والأمراء والرؤساء العرب الذين حضروا لقاءات القمة، وهم يشعرون بالرضا بأنهم أنجزوا خطوة مهمةً في طريق تجنب سريان فيروس "الفوضى الخلاقة" إلى بلدانهم، والاطمئنان على الحماية الأميركية لنظم الحكم.
وبعد عودة ترامب إلى واشنطن، وحديثه عن إنجازه بالحصول على مئات المليارات، من دون إشارة واضحة إلى التزامه بحماية تلك النظم، أو تقديم أية ضمانات حقيقية لحمايتها من فيروس "الفوضى الخلاقة"، ساد شعور بالقلق لدى الدول المعنية، وتصوّروا أن عليهم سرعة التحرك وطرق الحديد وهو ساخن، بتأكيد مشاركتهم في الحرب على الإرهاب، ودعم صفقة القرن. من هنا، بدأت أزمة الخليج تحت شعار محاربة الإرهاب ومن يدعمه، ووقع الاختيار على قطر لنعتها بتلك التهمة. لم يأت رد الفعل الأميركي كما أرادت الدول المقاطعة أو المحاصرة لقطر، ومضى الوقت، وأميركا والغرب تُخفض، يوماً بعد يوم، من مستوى المشكلة، بل اعتبرتها مشكلة خليجية، تعود إلى أسباب عاطفية، على حد تصريحات أميركية.
هنا أدركت الدول الأربع التى بادرت بالتحرك، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، ومعها الأردن، أن الهدف الحقيقي للاستراتيجية الأميركية، بعيداً عن خداع ترامب، ليس مجرد محاربة الإرهاب باعتباره عَرَضاً، ولكن معالجة المرض عن طريق تشكيل الشرق الأوسط الجديد.. ذي التوجهات العلمانية. بمعنى آخر، الشرق الأوسط الجديد منزوع العقيدة.
وكان لابد من تصويب الرسالة الموجهة إلى أميركا لتجنب فيروس "الفوضى الخلاقة"، فكانت تصريحات دولة الإمارات في واشنطن إن الخلاف مع قطر فلسفي بشأن رؤية الدول الخمس لمستقبل الشرق الأوسط، فهم يسعون إلى أن يكون شرق أوسط "علماني"، بينما لقطر رؤية مختلفة.
يبقى السؤال: بعيداً عن مشكلة الخليج وقطر، هل ستفلح الدول الخمس التي ذكرها سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، في أن تكون هذه الدول هي "الناجية" من الفوضى الخلاقة، على اعتبار أنها ستتحول إلى العلمانية، طواعية، وستكون قلب الشرق الأوسط الجديد.. "منزوع العقيدة".

دلالات

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.