مهاجر بلا قدّاحة

مهاجر بلا قدّاحة

15 اغسطس 2017
+ الخط -
تريث قليلاً، يا أبا سعدة، فقرار الهجرة ليس سهلاً على كهلٍ لا يحمل "قدّاحة" سجائر، مثلك، وأخشى ألا تجد في الغربة من يعيرك إياها.
أعلم أن لديك من مسوّغات الهجرة ما يملأ حقيبة السفر، ولا يعنيني كثيرًا أن تعاود ترديدها أمامي، ما يهمني، حقًا، هي القداحة التي كانت معضلتنا، نحن الاثنين، طوال زمالتنا في العمل.
ستقول لي إن جهازك العصبي لم يعد يحتمل ضغط المهازل العربية، وإنك قرّرت الفرار بفلول كرامتك بعيدًا عن هنا، ولا أدري لماذا تذكّرني بخاتمة رواية "طيران فوق عش الوقواق"، لصاحبها كين كيسي، حين حطم "الزعيم المكنسة" الباب الزجاجي بنافورة الماء الرخامية، بعد أن ضغط "وسادة الرحمة" على أنف زميله الذي انتزعوا منه تمرّده وحولوه إلى برغيّ عادي في آلة المصحة النفسية القاسية.
نعم، آثر صاحبنا أن يخنق زميله البطل، فيما هرب هو بكرامته التي كان قد أيقظها فيه زميله الميت نفسه قبل ذلك، وحين ركب أول سيارة صادفته غمغم بأسى، وهو يتأمل فضاء الحرية حوله: "أوووه.. لقد غبتُ طويلًا".
هل غبت طويلاً أنت، أيضًا، يا أبا سعدة، عن فضاء الحرية والكرامة والإحساس بالكينونة، لتحطم سبعين عامًا على أرضٍ خطفت حريتك، وحولتك إلى برغيّ في آلة الأنظمة العربية الشوهاء، ثم تقرّر بغتةً أنه آن الأوان لتحطيم الباب الزجاجي، ولو بتماثيل الجلادين العرب، هذه المرة، وتطير بعيدًا عن هنا؟
لكن، ماذا بشأن القدّاحة؟.. ربما ستقول لي إنها تندرج في باب "الممنوعات" على الطائرات، لكن المفارقة التي لن تدركها الأنظمة التي تنبش حقيبتك، أنها ملأى بممنوعاتٍ أخرى كفيلةٌ أي واحدة منها بتفجير الوطن العربي برمته، لو أتيح لها أن تتخلص من قيودها. هل أستعرض لك ممنوعاتك، أم أتركها مخفية؟
لحسن حظك أن أجهزة كشف الممنوعات في المطارات لا ترصد "الكبرياء" التي تهربها الآن في حقيبتك، ولا "الكرامة"، ولا "الحرية"، وإلا لكنت الآن مصفّد اليدين والقدمين برداء أحمر، بانتظار حبل المشنقة، وأكاد أجزم أن سائر أجهزة القمع العربية لا تقوى على رصد هذه "الممنوعات"، لأنها بحكم "المنزوعة" منذ لحظة ولادة المواطن العربي، فلماذا يتحرّون عمّا نزعوه بمشارطهم وسياطهم؟
عمومًا، أعاود طرح معضلة القدّاحة. هل تذكر أنك لم تحمل قدّاحة طوال السنوات التي قضيناها معًا على مكتبين متجاورين، على الرغم من أنك مدخنٌ شره، وكان عليّ دائمًا أن أعيرك قدّاحتي، وأعترف أن هذا السؤال كان يحيرني كثيرًا: لماذا لا يحمل أبو سعدة قدّاحة؟
دعنا لا نخرج عن موضوعنا، أعلم الدوافع الجامحة التي تدفعك إلى طلب الهجرة، وأنت الكهل الذي لم يفكر بها طوال سنوات شبابك وفحولتك، وأعرف اختبار الكرامة الذي وجدت نفسك في مواجهته، لأسبابٍ "بيروقراطية" لا أكثر، لكن الذنب ذنبك، لأن "الوطن لا يحمي المغفلين".
غير أن التحولات العربية الأخيرة كانت أشّد وطأة عليك، وأنت تشاهد بأم عينيك انقراض هذه الأمة رويدًا رويدًا، في زمنٍ آثرت فيه أنظمتنا أن تفعل ما تشاء، بعد أن فقدت حياءها، فلم تعد تراوغ في إظهار ولائها لإسرائيل، وفي عدائها للمقاومة، ولم تعد تجد أي حرجٍ في جعل بلدانها مزابل لأميركا وروسيا، على حد سواء، يستوي في ذلك الرجعيون و"الثوريون".
على أي مستقبلٍ كنت تراهن إذاً، يا أبا سعدة، وأنت تنتظر معجزة التحول العربية، ولماذا لم تتخذ قرار الهرب أيام شبابك؟ لكني أحسدك، فعلًا، إذ أرى أن انهيارك الجسدي لا يقف عائقًا أمام نزعة التمرد الأخيرة التي تومض في قلبك، وليت طغاتنا يلمحونها، ليدركوا استحالة سحق شعلة التمرد فينا، مهما نأى العمر بنا.
سترحل إذاً، يا أبا سعدة.. والغريب أنني، للمرة الأولى، أرى قدّاحة في يدك.. وللمرة الأولى، أشمّ رائحة حريقٍ تملأ الفضاء العربي خلفك.. فماذا فعلت بالقدّاحة، يا أبا سعدة؟
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.