سكك حديد مصر بريئة

سكك حديد مصر بريئة

14 اغسطس 2017

مشهد لتصادم القطارين في طريق الإسكندرية (18/7/2017/العربي الجديد)

+ الخط -
انتشر في مصر، قبل أسبوعين، فيديو قصير لسائق قطار ومساعديه يتعاطون الحشيش داخل كابينة القيادة، ويرقصون على أنغام أغنية شعبية هابطة في أثناء سير القطار. وقبل أيام، تأخر قطار من القاهرة إلى أسوان (700 كم جنوباً) أكثر من 12 ساعة عن موعده، فاجتمع وزير النقل المصري، هشام عرفات، مع مساعديه، ووصف واقعة تأخر القطار بأنها "أمر غير مقبول على الإطلاق"، وتوعد المقصّرين بالمحاسبة والعقاب الرادع. بعد أقل من أربع وعشرين ساعة، وقعت مأساة قطاري الإسكندرية التي راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى.
اعتادت مصر على هذا النمط المتكرّر عقودا، حوادث يذهب ضحيتها أعداد متفاوتة بين قتلى وجرحى، بيانات رسمية تؤكد محاسبة المقصّرين، وتبشر بتجديد وتطوير يحول دون تكرار المأساة. ثم تتكرّر المأساة بحذافيرها بعد فترة تطول أو تقصر، وصلت في الحالة الجديدة إلى ساعات فقط.
وكما يتكرّر السيناريو نفسه من المسؤولين الرسميين، صار معتاداً أيضاً أن يجتمع نواب البرلمان المصري، ويصدرون بيانا أو يطلبون إيضاحاً من الوزير المختص. بينما يركّز الإعلام على المسؤولية المباشرة لصغار العاملين، مثل السائقين أو المشرفين على حركة القطارات. وهكذا تكتمل الملامح الثابتة لمشهد متكرّر لا جديد فيه منذ ثلاثين عاماً سوى أسماء الوزراء والمسؤولين والنواب.
تقريباً، لا خلاف في مصر بشأن أسباب كوارث القطارات وحوادث الطرق بشكل عام، فهي دائماً نتاج أخطاء بشرية. من الإهمال إلى نقص الكفاءة أو قصور في التأهيل. ومن تراخي المتابعة والرقابة إلى عدم الالتزام بقواعد التشغيل وقوانين الحركة والمرور وإجراءات التأمين. كلها أسباب معروفةٌ وواضحة، وتوجد دراسات وخطط كثيرة لعلاجها. ليست المشكلة الحقيقية في المسببات، ولا في الإجراءات المطلوبة لتلافيها. تتجاوز مشكلة حوادث النقل في مصر تلك الدائرة المغلقة من الأخطاء البشرية التي تسبب حوادث مأساوية، وتتلوها تصريحات وردية.
لا توجد في مصر مجالس محلية (بلديات) منذ 2011، ويصعب اعتبار ذلك أمراً جيداً أم سيئاً. فقبل ذلك كانت المحليات القائمة أحد المصادر الرئيسة للفساد والتسبب في الكوارث ثم التغطية عليها. وكانت حوادث الطرق والنقل تقع وتتكرّر تحت أعين المحليات، ولا تزال مستمرة من دونها، فغيابها ليس أسوأ كثيراً من سلبيات وجودها.
يتلخص جوهر المشكلة في ثلاثية: الفساد، الإعداد، والموارد، فمنظومة العمل في القطاعات الخدمية والمحليات، توفر بيئة خصبة للفساد، سواء المالي أو الإداري أو حتى الأخلاقي. بينما يفتقر دولاب التشغيل والعمالة إلى المستوى المطلوب من التدريب والتأهيل المهني والثقافي، للعاملين في مختلف القطاعات، خصوصا ذات الصلة بأرواح البشر. أما نقص الموارد فهو قاسم مشترك بين كل الكوارث والمشكلات في قطاعات النقل والصحة والبنية الأساسية والإنشاءات وغيرها. في بلدٍ يعتبر الأمن السياسي أولوية قصوى، تكتسح أمامها مخصصات التعليم والصحة والخدمات العامة.
هذا هو مثلث الفشل الذي يحكم منظومة الأداء الحكومي في مصر، خصوصا في القطاعات الخدمية. ولا سبيل إلى الخروج من هذا الفشل سوى باتجاه مؤسسات الدولة، المحلية والمركزية، إلى كسر هذا المثلث، وتصحيح أوجه الخلل المتفشّي في أضلعه. على أن يتم ذلك متزامنا، فلا يصلح تطوير ضلع أو اثنين، فالثالث كفيل بإفشال الجميع. وستتوالى الكوارث، وتزداد أعداد الضحايا، حتى وإن تم تحديث القطارات وتأهيل العاملين، إذا استمر التغاضي عن الفساد وتراخي الرقابة وغياب المساءلة على كل المستويات.
وإلا صار أي حديثٍ عن وقف نزيف الدم على الطرق، أو في وسائل النقل لا طائل منه، يضاف إلى سلسلة التصريحات والوعود التي تصاحب كل كارثةٍ، ثم تُعلق حتى وقوع كارثة جديدة. وفي وضعٍ كهذا، لا تفيد كثيراً إقالة مسؤول أو حتى استقالة وزير.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.