سوء التوصيل في وسائل التواصل

سوء التوصيل في وسائل التواصل

13 اغسطس 2017

(Getty)

+ الخط -
تبيّن في استطلاع أجرته مؤسسة فرنسية عريقة أن أكثر من 24% من مضامين الأخبار التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي في فرنسا أكاذيب محضة. وتبين أيضاً أن نظرية المؤامرة المُحاكة من جهات "مغرضة"، كالروس مثلاً إبّان الحملة الانتخابية الفرنسية، لا تساهم في إغناء هذه الأكاذيب بأكثر من 5%. ويُضاف إلى هذه النسبة ما يصل إلى 19% من الأخبار المُحرّفة والمشوّهة، والتي اجتهد ناقلوها سلباً في تفسيرها. 

هذا في فرنسا، والتي تعوّد ـ نسبياً ـ أهلها على حرية التعبير وحرية النشر وحرية الخطابة منذ عقودٍ طويلةٍ. وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي عنصرا إضافيا في المشهد الإخباري، لتُضعف من جدية مصادر المعلومات، على عكس ما كان ينتظر بعضهم منها من تحرير لمصدر المعلومة وطريقة توصيلها. حيث في بدء العمل بها، كتب المتخصصون دراسات حول "دمقرطة المعلومة" و"الصحفي المواطن" و "كسر الاحتكار" الإعلامي (...).
فالإعلام في الغرب يُعاني إذاً ما يُعانيه من تشويه في الشكل وفي المضمون، نتيجة الاستناد إلى وسائل التواصل الاجتماعي لدى مجموعاتٍ بشرية لا يُستهان بحجمها، فماذا يمكن للإعلام في المنطقة العربية من أن يعيشه من تجارب في هذا الجو من "الانفلات" الإخباري الذي صار لكل من استطاع إلى لوحة المفاتيح سبيلاً أن يُغدق به على عموم المتلهفين إلى الخبر في ظل أنظمة استبدادية، تعتبر حرية التعبير وحرية الوصول إلى المعلومات من ألدّ أعدائها؟
تعاني حرية التعبير والتواصل والتوصيل في الغرب من "مستنقعات" الأخبار هذه، ويدفع الظمأ لهذه الحرية في المنطقة العربية الجموع البشرية إلى تلقف كل ما تهرف به هذه الوسائل من أخبار ومن إشاعات ومن تحريفات ومن أكاذيب ومن إساءات. صارت هذه الوسائل المصدر الأول للمعلومة لدى الغالبية التي تعاني من كذب حكّامها، ومن انحراف إعلامييها التقليديين مهنياً وأخلاقياً، ممارسةً ويقيناً. فإلى جانب الشك القائم على قواعد سليمة بكل ما تتفوّه به وسائل الإعلام التقليدية "الوطنية"، وإلى جانب الخوف من التعبير في المجال العام التقليدي، أفسحت هذه الوسائل الطريق أمام من "هبّ ودبّ" لتشويه الحقيقة ونقل الأكاذيب بحجة "حرية الإعلام" المنشودة.

صار من أسهل الأمور التشكيك في المقاصد وفي النيات لدى من هم ليسوا على رأيك، فيكفي أن تتهم أحدهم أو إحداهن بالإلحاد لمجرد تعبير علماني ورد في خطابه السياسي، أو أن تتهم من تختلف معه أو معها في التعبير الديني بالإسلاموية والتطرّف لمجرد قوله إن للإسلاميين الحق في التعبير عن وجهة نظرهم في إطار احترام حريات الأخرين، أو تُلفّق لآخر أو لأخرى تهمة التخابر مع جهاتٍ مشبوهةٍ لمجرد أن نشاطاً علمياً جمعه بمن ينتمي إلى من تعتبر أنت أن التواصل معه من أخطر الموبقات.
صار لك أن تستيقظ صباحا مكتئباً، راغباً في شتم أحد ما، فتكتب على هذه الوسائل إنه شوهد في موقف كذا .." أو أنه قال لمصدر موثوق "كذا.." حتى تنال أكذوبتك الناجمة عن استيقاظك من الجانب السيئ للفراش صداها الواسع، ويتشاطر القاصي والداني في إضافة ما لذّ وطاب من أكاذيب إضافية، تُغني الحدث، وتجعلك واسع الانتشار، رغماً عن أنف الحقيقة.
إضافة إلى هذه الإمكانات البشرية الفردية التي تتعاضد على الحقيقة والموضوعية، تبرز جماعات منظّمة، ودائما بحجة معرفة الحقيقة، وإيصالها إلى الشعب "المعتّر" والممسوك ظلماً بآلة إعلامية مُباعة أو مُشتراة. وتعمل هذه المجموعات إما في أطرٍ أمنية تنسّق فيما بينها، لا هم إن كانت معارضةً أو موالية، أو في ظل شخصياتٍ متمكّنة مالياً تسعى إلى الإساءة المجانية لهذا أو ذاك، لهذه أو تلك، ممن ليسوا على سراطه المتعرّج.
في الأشهر القليلة الماضية، كم تم التشهير بشخصيات عامة عبر وسائل التواصل هذه، استناداً إلى كذبٍ موصوفٍ، أو إلى تسريبات مجتزأة أو إلى اجتهاداتٍ غير أخلاقية في تفسير النص؟
يبقى أمام الضحية الاختيار بين عدم الالتفات لهذا الكذب، الذي، وبآلية كرة الثلج، يتحوّل إلى كمٍّ هائل من التشهير، أو التصدّي لهذا السوء بتوضيحاتٍ تُحاكي عقل الإنسان، وتبتعد عن التأجيج والتحشيد.
في الغرب المتحضّر، تطاول دولة القانون حتى وسائل التواصل الاجتماعي، وتضع من يمتهن الكرامات، ومن ينتهك الحقيقة، ومن ينشر الأكاذيب أمام مسؤولياته القانونية. أما في الدول العربية، حيث غالباً تغيب الدولة بمفهومها السياسي، ويُنتهك القانون بمفهومه الحقوقي، وحيث هناك سلطات مهيمنة خارج أي مفهومٍ حداثي للدولة، فما على الضحايا إلا أن يختاروا بين الإهمال أو التصدّي كما أسلفت. أو الإهمال، فيبدو لبعضهم وكأنه تأكيد للكذب، وخوفٌ عن الخوض فيه، أو التصدّي، فيحتاج أعصابا هادئة ولغة واضحة، لتبيان المواقف بعيداً عن التشويهات المفتعلة أو لعب دور الضحية التي تبحث عن تضامن بأي ثمن.
سمعت والدتي، المثقفة والحقوقية والتي تقرأ كتاباً في اليوم، كلامي عن "فيسبوك" و"تويتر"، فسألتني باستغراب: ما هي هذه الأشياء؟ (...) كم أحسدها.