المغرب وحالة الاستثناء

المغرب وحالة الاستثناء

11 اغسطس 2017
+ الخط -
بأمل كثير، انتظر المغاربة خطاب الملك محمد السادس، بمناسبة عيد العرش نهاية الشهر السابق، كما لم يسبق لهم أن انتظروا خطابا ملكيا، إذا نحن استثنينا خطابه الأول وخطاب 9 مارس/آذار 2011 في أوج "الربيع العربي".
كان الانتظار دليل أمل، وكان كذلك تعبيرا عن طلب مكثف، ومعلن، لتدخل ملكي حاسم في موضوع "حراك الحسيمة". وفي الواقع، تعني المسألة أن تمثل "الملكية -الحامية" لا يزال يكيّف رؤية مغاربة كثيرين الحاجة الوظيفية للمؤسسة الملكية، كما تعني كذلك أثرا طبيعيا لتقدير طبيعة توزيع السلطات والصلاحيات داخل الهندسة السياسية والمؤسساتية للمغرب. لذلك، يمكن أن يُقرأ هذا الطلب المكثف، يمكنه في الوقت نفسه، كمحدودية سياسية لنموذج دستوري، خصوصا كما يتم تفعيله، يمنح للملكية مساحات واسعة من التأثير والحضور، على حساب المؤسسات الأخرى، القابعة داخل دائرة الهشاشة، من حكومة وبرلمان.
الخطاب، في الأخير، على مستوى جوابه على سؤال اللحظة (الحراك)، وعلى سؤال التاريخ (إصلاح الدولة)، لم يتجاوز سقف 9 مارس، معتبرا النموذج المؤسسي المغربي جد متقدم، وأن ما يعانيه هو أزمة تطبيق وحكامة، وأزمة فاعلين (من إدارة ومنتخبين وأحزاب سياسية). وفي مقابل ذلك، قدّم الخطاب الملكي تكثيفا وامتدادا لما أصبح عليه الجيل الجديد من الخطب الملكية: منصة "منبرية" للتقييم العمومي للأداء الحكومي والإداري والحزبي، بنبرة "معارضة" و"حادة"، وبلغة مبسطة بين الفصحى والدارجة.
شبكة التقييم، أصبحت تقريبا أكثر اكتمالا، بالعودة إلى خطب الأربع سنوات الماضية: من جهة هناك اعتزاز بالتدبير الاستراتيجي للقضية الوطنية وللعلاقات الخارجية للمغرب، ولسياسات
الطاقة الشمسية، ومخططات الفلاحة والصناعة، والأداء الأمني، ودينامية القطاع الخاص. في مقابل انتقاد صارخ للتدبير الحكومي للمدرسة، والإدارة، والتسيير المحلي، والقطاعات الاجتماعية، و"جلد" مستمر للأحزاب السياسية وأدائها التواصلي والانتخابي ولتدبيرها الصراعات السياسية.
وفي المجمل، لا تخرج الحصيلة، كما تقدمها الملكية، عن هذه المفارقة: الاختيارات الكبرى للبلاد التي يحدّدها الملك تبقى صائبة، فيما الاختلالات المعبر عنها بلغة "قوية" و"غاضبة" تعود، في الغالب، إلى غياب أخلاق المسؤولية، سوء الحكامة، مسألة العقليات، أو مشكلات في التنفيذ.
الواقع أن الخطاطة المؤسساتية للبلاد ليست بعيدة عن اللوحة السوداء التي طالما تحرص الملكية على تقديمها في خطب السنوات الأخيرة، بحسّ نقدي، يعجز خدّام السلطوية على مجاراته، ذلك أن هذه الاختلالات البنيوية هي كذلك نتيجة سيادة مساحاتٍ من اللامسؤولية السياسية. كما أن العجز المؤسسي للحكومة أو البرلمان ناتج كذلك عن منظومة سياسية تتضايق من مخرجات الإرادة الشعبية، ولا تستطيع التعايش مع هامش التأويل البرلماني الذي فرضه سياق 2011. وطبعا، يعود ضعف الأحزاب، فضلا عن هامشية تأثيرها في سلطةٍ تنفيذيةٍ لا تزال محكومة بالنفس التكنوقراطي وصيغ التنخيب المبنية على النفوذ العائلي وزواج السياسة بالاقتصاد، إلى الإصرار على مصادرة قراراتها المستقلة، وإلى دعم قياداتٍ، من فصيلة خدام الدولة، بلا مصداقية، أفرغت الأحزاب الوطنية وقامت بإذلال السياسة والتكسّب من شعبية الملكية.
في النهاية، إذا كان هاجس الخروج من قفص الحسن الثاني (بلغة عبد الله العروي) يظل مطروحا ضمن أفق ملكية أكثر برلمانية، فإنه، على مستوى التعاطي مع حراك الريف، يبقى خطاب العرش، في تركيزه على مفتاح "المسؤولية"، وثيقة إعلان مبادئ تحتاج إلى سلسلة قرارات منتظرة.
في الحد الأدنى، يمكن للأمر أن يتوقف على مجموعة إعفاءات لوزراء أو موظفين سامين. وفي سقف الانتظارات، يمكن للأمر أن يصل مؤسساتيا إلى حلول أكثر "جذرية". من ذلك مثلا، فإن خيار اللجوء إلى إعلان حالة الاستثناء، على الرغم من كلفته السياسية المؤكدة، يبقى من الناحية الدستورية خيارا غير مستبعد؟ وذلك للأسباب التالية:
أولا: لأن خطاب العرش يفترض تقديم جواب مكتمل على التشخيص الأسود، على المستويات الحزبية، الإدارية والاجتماعية، ذلك أن أسوأ ما يمكن أن يقع بعد هذا الخطاب هو أن لا يقع أي شيء، فالمفترض، حسب منطق الخطاب، أن الدولة تملك تقييما دقيقا للحالة السياسية والاقتصادية، وأنها ستشرع في تنزيل مخرجات هذا التقييم. والواضح هنا من حدة التشخيص أن المخرجات المنتظرة قد تتجاوز تفعيل المسؤولية الإدارية لخلاصات لجنة التحقيق في ملف "منارة المتوسط" المتعلق بمدينة الحسيمة.
ثانيا: تركيز الخطاب الملكي على العطب الحزبي، والتصريح بأن الملك غير مقتنع بالطريقة
التي تمارس بها السياسة، وبأنه لا يثق في عدد من السياسيين، وتأكيده، في السياق نفسه، بأن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر يعني أن "استعجالية" الوضع لا تتطابق مع زمن "الإصلاح الحزبي"، وهو ما قد يسمح، انطلاقا دائما من منطق الخطاب، بالتفكير في صيغة "دستورية" قد تستطيع تأطير مرحلة ببرنامج "تصحيحي" مع "تحييد" مؤقت لمنافذ تأثير الحياة الحزبية في الشأن العام.
ثالثا: حرص الملك في خطاب العرش على احترام اختصاصات المؤسسات وفصل السلطات، جاء مشروطا بقيام المسؤولين بواجبهم، إذ في حالة العكس يعتبر الملك نفسه ملزما بالتدخل.
رابعا: استند الخطاب الملكي إلى عصب الاختصاصات الملكية، مجسّدة في الفصل الاستراتيجي (الفصل 42)، والذي يحدّد المهام الدستورية الضمانية التي يمارسها الملك بصفته رئيسا للدولة وممثلها الأسمى. وهذه المهام التي يمارسها بواسطة ظهائر (مراسيم ملكية)، من خلال السلطات المخولة له صراحة بنص الدستور، ومن ضمنها طبعا الفصل 59 الذي ينظم حالة الاستثناء، يحدّد شروطها الشكلية والموضوعية. حيث توجد ضمن تلك الشروط وقوع ما من شأنه عرقلة السير العادي للمؤسسات الدستورية.
ولاشك هنا، أن الخطاب الملكي كان قد اعتبر أن النموذج المؤسسي المغربي يبقى في معظمه حبرا على ورق، وأن المشكل يكمن في التطبيق على أرض الواقع.
2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي