لا تفسدوا علينا دوائرنا

لا تفسدوا علينا دوائرنا

02 اغسطس 2017
+ الخط -
وفق مصادر تاريخية، كان أرخميدس مستغرقاً في التفكير في إحدى فرضياته العلمية الرياضية، ربما من دون علم منه باجتياح روماني لمدينته سرقوسة، وبينما كان يرسم مخططاً بعصا على مساحةٍ من رمل، تقدّم نحوه أحد الجنود الرومان، فداست إحدى قدميه ما كان يرسم. انتفض أرخميدس غاضباً وقال له: من فضلك، لا تفسد علي دوائري. .. فاستل الجندي السيف، ليهدر حياة واحدٍ من أعظم رجال العلم في العصور القديمة.
منذ الحضارات الأولى، بدا التناقض على أشدّه، بين همجية العسكر والطابع الهادئ والمنتج للحياة المدنية. وتوالى سقوط حضارات واندثار أخرى، تحت قدح الحوافر، والسيوف المسلطة، ونيران المجانيق.
في مجتمعات الحداثة، وما بعدها، تلجأ الدول إلى فرض حالات الطوارئ وقوانينها، عند مواجهة خطر عدوان خارجي، أو اضطرابٍ في أمنها الداخلي، فيُمنح أهل الاختصاص من رجال الأمن والعسكر، على غير العادة، صلاحيات أوسع في سبيل تدبير تلك الظروف الاستثنائية. لكن هذا النوع من العسكرة، على الرغم من ضرورته، يظل ثقيلاً على الجسد الدستوري لتلك المجتمعات، وهويتها المدنية، فيبقى مجرد أدوات داخل مجتمع مدني في جوهره، ووسائل إجرائية، لا تلبث أن تزول بزوال الحاجة التي فرضتها.
في دول كثيرة في العالم الثالث، ومنها عالمنا العربي، ليست قوانين الطوارئ بالطارئة، كما
 يوحي اسمها، فبعد أن وفرت مرحلة الاستقلال، وما بعدها، قواعد ليبرالية لتداول سلمي للسلطة، وحياة دستورية، برلمانية وحزبية، توالت هنا وهناك البلاغات العسكرية ذات الرقم 1، أطاحت تباعاً تلك القواعد، وخضعت الدولة وسائر مؤسساتها لهيمنة قرارات المنظومة العسكرية ونُخبها، تخطيطاً وتنظيماً وأيديولوجية.
لم يحتكر العسكر الحياة السياسية، والفضاء العام وحسب، بل حُوصرت أيضاً الحريات الشخصية، عبر إجراءات التجسّس على المواطنين، والتصاريح والموافقات الأمنية التي قنّنت قسرًا شؤونهم المهنية والتجارية، وحتى الدراسية. هذا كله بالإضافة إلى الملاحقات والاعتقالات، زالت هيبة الأجهزة القضائية والرقابية، لصالح فوبيا قمع الأجهزة الأمنية.
سَوّق العسكر أنفسهم بضرورات استثنائية، من مؤامراتٍ خارجيةٍ وداخليةٍ، وأطماع دولية، واحتلال صهيوني يستهدف الأرض والعرض، حتى لم يعد من صوتٍ يعلو على صوت معاركهم الوهمية، ورصاصاتهم الخُلّبية، وبنادقهم الموجهة إلى الداخل لحماية نظمهم العسكرية، وأصبحت حالة الطوارئ قاعدة، وزوالها استثناءً.
قضت العسكرة على مضمون الدولة المدنية، حين تحولت قوانين العسكر ونهجهم من أدوات داخل مجتمع مدني إلى مجتمع قائم بذاته، توارت خلفه كل دوائر الحياة المدنية، فانتشرت القواعد والثكنات العسكرية، ناهيك عن الضواحي، في مراكز المدن وما لفّ لفيفها، فاختلط حابل المدنيين بنابل العسكريين الذين باتوا مشهداً مألوفاً، بوصفهم جزءاً من التركيبة الاجتماعية.
عدم انضباط العسكر، والأجهزة الأمنية، في حمل السلاح بين المدنيين، جعلهم لا يتردّدون في استعماله خارج دائرة الواجب، وانتشر هوس استخدام السلاح، المرخّص وغير المرخص، بين المدنيين، فأصبح إطلاق الرصاص العشوائي الوسيلة الأكثر بلاغةً للتعبير عن مشاعر الحزن والفرح، بمناسبة وبدونها. في الأعراس، وتشييع الجنازات، والنجاح في الشهادتين التوجيهية والثانوية، وحتى في حفلات الطهور، والتسريح من الخدمة العسكرية، من دون رادع قانوني، أو إنساني يأخذ بالحسبان ذعر المدنيين وموتهم الطائش برصاص حي. ويزداد الأمر سوءاً حين تغيب الجيوش النظامية لصالح انتشار المليشيات المسلحة.
وناهيك عن تفشي الفساد الإداري والمالي الذي يؤدي إلى مختلف أشكال الانفلات والاختراق الأمنيين، لتصبح الأجهزة الأمنية والعسكرية والمليشوية ذاتها عبئاً على المواطن، من باب "حاميها حراميها" كما يقول المثل، ناهيك عن ذلك كله، تهيمن ثقافة العسكر المتدنّية عموماً، التي تصل أحياناً إلى الأمية، وتحل ثقافة الخدمة العسكرية مكان ثقافة الخدمة المدنية.
ومع مركزية شديدة، وإعلام فجّ لا يراعي القيم والمعايير المهنية، بل لا همّ له إلا تمجيد القائد، ينحدر المجتمع مبتعداً عن الطابع المدني إلى طابع تقليدي، يرسّخ الولاء لشخص الزعيم، بديلاً عن المواطنة. إذ يتنافس العسكر وقياداتهم في إظهار الولاء للزعيم الأوحد، بدل الولاء للشعب والوطن، للحصول على الرضى المترافق مع مزيد من الامتيازات، وإطلاق اليد والنفوذ.
عنف الأنظمة التي دفعت الجيش في مواجهة الشعب، وتاريخ من العسكرة داست مختلف دوائر
الحياة، أفضيا إلى غياب ثقافةٍ مدنيةٍ تُرافِقُ انطلاق ما عرفت بانتفاضات الربيع العربي، فغابت الرؤية السياسية، ولاذت تلك الانتفاضات بالبنادق لمواجهة بطش الأنظمة العسكرية الحاكمة. وأمام مخزون لا وعيين، فردي وجمعي، هيمنت عليهما فكرة العسكرة، وجد التطرّف الإسلامي الحالم بالفتوح العسكرية، بيئةً خصبة، لينقلب الربيع حروباً أهلية، احتكمت إلى لغة السلاح، وثقافة العسكر، فمجّدت الأشخاص/ الرموز، وتمسّكت بولاءاتها الطائفية ما قبل الوطنية: المذهبية والعشائرية والإثنية، في معارك لم يعد فيها وقف إطلاق النار بيد أهل مكة الذين باتوا لا يعرفون شِعَابها.
لم تُفسد العسكرة المجتمعات فقط، بل الثورات أيضاً، فاحتارت الجغرافيا بالرايات المتباينة في ألوانها المتشابهة في ممارساتها التي تصر على انتهاك حقوق الإنسان، وتكرّس قناعة بأن الحرب غَشوم، لأنها تنال غير الجاني. هذه الحلقة المفرغة من واقع مأزوم بالعسكرة، وإرادة صادقة في التغيير نشدت بسذاجة مجتمع مدني بأدواتٍ لا مدنية، أدّت إلى نتائج كارثية، استحال معها ما بدا ربيعاً كابوس صراعات دموية، وطائفية، وأهلية، أوقفت ذلك المد الحالم بالتغيير، وأفسدت كل دائرة تصلح لحياة بشر.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.