عن انقساماتنا المجتمعية والهوياتية

عن انقساماتنا المجتمعية والهوياتية

10 يوليو 2017
+ الخط -
من جملة مآسي العالم العربي التي عشناها، ولا نزال، منذ بدء الموجة المضادّة للربيع العربي قبل أربعة أعوام، انتقال حالة الانقسام والاستقطاب السياسي والإيديولوجي والمذهبي من السياسة إلى المجتمع وفئاته، بحيث أصبح الأخير ميدان الصراع، وليس السياسة، وذلك فيما يشبه نوعا من الانتحار الذاتي، تمر به مجتمعاتنا العربية، فالانقسامات الأفقية والعمودية أصبحت طابعاً أساسياً في معظم هذه المجتمعات، خصوصا التي مسّتها رياح التغيير ولو من بعيد، خلال السنوات الماضية، فأثر سلباً علي الروابط والوشائج العائلية والقبلية والإنسانية التي كانت جزءاً أساسياً في تماسك هذه المجتمعات، وبدأ النسيج الاجتماعي في التآكل تدريجياً، تحت وطأة السياسة وصراعاتها.
حتي مع الدول القومية القديمة، ذات الإرث المتماسك تاريخياً، كما الحال مع مصر، فإن جرثومة الانقسام والاستقطاب انتقلت من الفضاء السياسي إلي الفضاءين، الاجتماعي والأهلي، بحيث بات المجتمع منقسماً بموازاة خطوط سياسية وإيديولوجية وطائفية كثيرة. لذا، ما أن يقع حادث إرهابي، ضد مدنيين أو ضد مؤسسات الدولة، حتى تبدأ آلة التلاسن والتراشق والتخوين في العمل، بحيث ينسى الجميع الحادث نفسه، وكيفية التعاطي معه حتي لا يتكرّر، ويركز على تحقيق مكاسب سياسية منه. خذ أيضا فلسطين مثلاً بعد فوز حركة حماس بالانتخابات النيابية عام 2006، ثم سيطرتها علي قطاع غزة عام 2007، أو ليبيا بعد معمر القذافي، أو مصر بعد انقلاب يوليو 2013، أو اليمن بعد انقلاب الحوثيين قبل عامين ونصف العام، أو سورية منذ بدء ثورتها، وقبل ذلك كله العراق بعد غزوه عام 2003، وقبل هذا كله ما حدث في الجزائر أوائل التسعينيات ولا تزال آثاره باقية. والآن في الخليج، بعد أن وصلت إليه رياح الفرقة والانقسام والاستقطاب، بعد أن ظننا أن روابط التاريخ والدم والقبيلة أقوى من أن تهزّها أو تزيحها رياح الانقسام والاستقطاب التي تضرب المنطقة من شرقها إلى غربها.

أحتفظ بصداقاتٍ عديدة في معظم البلدان المذكورة، وأشعر بالمرارة وخيبة الأمل، حين أجد كثيرين منهم يقع في فخّ هذا الاستقطاب، فيتمادى فيه متجاوزا السياسة إلى العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي تربط أصدقاءه وأقاربه وعوائلهم، فيتحوّل الخلاف السياسي إلى صراع هوياتي واجتماعي، يستند إلي لعبة صفرية "إما نحن أو هم". وأسمع قصصا كثيرة عن أصدقاء وأقارب انقطعت علاقاتهم وأواصرهم بسبب السياسة وخلافاتها وصراعاتها. ومن يستمع للبرامج الإخبارية، أو يقرأ مانشيتات الصحف الخليجية هذه الأيام، يدرك حجم الانقسام الذي يتمدّد ويهدّد أهله، ويأتي على كل روابط الدم والتاريخ والعلاقات الاجتماعية.
ولا تتوقف الآلة الإعلامية لهذا الطرف أو ذاك عن جرّ هذه الروابط من حقل السياسة إلى المجتمع، من أجل ضمان التعبئة والحشد لهذا الطرف أو ذاك، متغافلةً، أو هكذا يبدو، عن الآثار المدمرة لتسييس العلاقات الاجتماعية، وآثار ذلك الفادحة علي المديين، المتوسط والطويل. ويبدو خطاب الكراهية والتحريض كما لو كان الورقة الرائجة التي تكسب هذه الآلة مزيداً من الجمهور. وما نخشاه أن يتحوّل هذا الخطاب التحريضي إلي واقع مادي ملموس، فنشهد اغتيالاتٍ معنويةً وماديةً، تنهار معها كل الثوابت، أو تلك التي كنا نظنها كذلك، فينتقل الخلاف السياسي الطبيعي إلى صراع أهلي دامٍ، يدفع ثمنه الجميع.
رأينا ذلك في حالاتٍ كثيرةٍ خلال السنوات القليلة الماضية التي تحولت فيها الخلافات السياسية إلى حالة تدمير لمجتمعات كاملة سقطت ولم تقم لها قائمة، نتيجة عدم وجود اتفاق، ليس فقط حول قواعد اللعبة التي أصبحت صفريةً كما أشرنا، وإنما حول تجنيب المجتمع وفئاته وتحييدها عن هذه الخلافات.
وإذا كانت الأنظمة السلطوية المستفيد الرئيسي من هذه الانقسامات، على طريقة "فرق... تسد"، على عكس ما تدّعيه من سعيها إلى الوحدة والاستقرار، فإن نخباً عربية، بمختلف تلويناتها الفكرية والإيديولوجية والسياسية، أعطت غطاءً شرعيا لهذه الانقسامات، من خلال انحيازاتها لهذه الأنظمة، ووقوعها في فخ التوظيف السياسي والإيديولوجي لها رغباً أو رهباً. ولا تخجل النخب السياسية، أو قادة الرأي، من التمادي في استخدام أوراق الانقسام المختلفة، من أجل التعبئة والحشد باتجاه معين، كما رأينا في الحالة المصرية، وحالياً في الحالة الخليجية. ولا يدرك هؤلاء أن التعبئة على أساس قبلي أو هوياتي أو إيديولوجي، في ظل حالة الانسداد والقمع السياسي، تمثل الخلطة السحرية للانتحار الذاتي للمجتمعات.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".