الثورات العربية والمستبد الصغير

الثورات العربية والمستبد الصغير

09 يوليو 2017
+ الخط -
تصدّرت مطالب الحرية والديمقراطية الواجهة الإعلامية المعبرة عن الثورات العربية، باعتبارها ردا طبيعيا على الممارسات الديكتاتورية والاستبدادية للأنظمة، على مدار السنوات والعقود الماضية. لكن، وعلى الرغم من نجاح بعض الثورات العربية في إسقاط رموز الاستبداد المتمثلة في شخص الرئيس، أو تحييدها، إلا أننا مازلنا نعيش ظروف القمع والاستبداد نفسها التي كانت قائمة قبل الثورات، وبصورة أكبر وأكثر بشاعة وإجراما. حيث تحولت الأنظمة، في غالبية الدول العربية التي شهدت حراكا شعبيا "ثوريا"، إلى آلة إجرام وقتل ذاتية بدايةً، ودولية وإقليمية لاحقا. فها نحن اليوم نعيش مرحلةً من التدهور الإنساني والديمقراطي غير مسبوقة في تاريخنا الحديث، ولا في التاريخ العالمي الراهن، ما يدفعنا إلى التعجب من قدرة هذه الأنظمة على الاستمرار في القتل والإجرام العلني في القرن الـ 21، من دون أي خوفٍ من موقفٍ دولي حازم وواضح تجاهها، فهل ذلك دليلٌ على قوة هذه الأنظمة وجبروتها، أم دليل ضعف النظام الدولي الراهن وعجزه عن لجمها ومنعها ومحاسبتها وفقا للقانون الدولي، أم دليل توافق النظام العالمي مع أنظمتنا بشأن هذه الممارسات الإجرامية ودليل دعمه لها سراً وعلناً أحياناً؟ 

أضحت الإجابة عن هذا التساؤل غاية في البساطة والسهولة، نظراً لما قدمه النظام العالمي من مساعداتٍ، ومن فرصٍ لأنظمة الإجرام، من أجل سحق الثورات، وتثبيت ركائز الحكم الاستبدادي والمافيوي من جديد، غير أن بعضهم مازال يقع في مصيدة أوهام إنسانية النظام
 العالمي، ليمنّي النفس بتدخلٍ دولي ينهي الاستبداد والإجرام المحلي، من أجل دفعنا نحو الحرية والتقدم والاستقلال عند أي حدث أو تصريح يهاجم إجرام هذه الأنظمة، مثل تناسي مواقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وتصريحاته في أثناء حملته الانتخابية، بعد تنفيذ الضربة الأميركية على مطار الشعيرات العسكري السوري، ليعودوا إلى التعلق بأوهام الخلاص الخارجي، في حين نلمس، على الطرف الآخر، صدمة بعضهم واستنكارهم من موقف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من بشار الأسد، والتي اعتبر فيها "رحيل الرئيس السوري عن سدّة الحكم ليس أولوية"، معتبرا أن "الأسد عدو للشعب السوري، وليس عدوا لفرنسا". هذه الصدمة التي تعبر عن عدم فهمٍ للموقف الدولي من الحركات الثورية عموما، والعربية خصوصا، والتي عكستها ممارساتها على مدار السنوات الثورية السبع الماضية، وبغض النظر عن الخطاب الإعلامي والسياسي لهذه الدولة أو تلك، حيث لا يمكن لمس فرق جوهري بين الممارستين العمليتين الأميركيتين في عهدي الرئيس أوباما وخليفته ترامب، وكذلك الأمر عند المقارنة بين السياسة الفرنسية في عهد فرانسوا هولاند أو في عهد ماكرون، حيث يعبر الخطاب الإعلامي والسياسي الدولي عن ضرورات داخلية ونسبيا خارجية، سواء أكانت ناقدة ورافضة الممارسات الإجرامية المرتكبة، أو التي تعبّر، بشكل أو بآخر، عن أن هذه الأنظمة الإجرامية تمثل الخيار الدولي الأفضل، من أجل ضبط الأوضاع في منطقتنا العربية، الأمنية منها والتجارية أو الاقتصادية عموما، بل تجاوز الخطاب تلك الحدود، ليعبر عن عدم الاكتراث الدولي باستمرار الأسد أو عبد الفتاح السيسي أو النظام الإيراني وغيرها، في مقابل اهتمام النظام العالمي بالقضايا الأمنية، والأخرى المرتبطة بالنفوذ الاقتصادي المنشود لكل من فرنسا وروسيا وأميركا وغيرهم، بالإضافة إلى هيمنتهم وسيطرتهم على مواردنا وخيراتنا الوطنية، وتلك هي الحقيقة الصادمة التي ترسم الملامح الحقيقية والفعلية للسياسة العالمية.
ترى هذه السياسة العالمية في قوى الإجرام الحالية حليفا اقتصاديا لا غنى عنه، في مقابل خوفٍ وتوجسٍ من الانفجار الشعبي، ومن تبعاته المستقبلية التي قد تحمل بوادر قطيعة نهائية، إذا ما تطوّر الحراك الثوري، استنادا إلى زخم انتصاره على أنظمة الاستبداد والإجرام، وتبنى توجه تقدمي يقوم على استنهاض الصناعة والزراعة المحلية الذي يؤدي إلى إنهاء جميع أشكال التبعية الاقتصادية الحاصلة اليوم، وفي الأمس القريب، برعاية الأنظمة الاستبدادية وحمايتها.
هذه المخاطر والمخاوف التي تحملها المنظومة الدولية قاطبة تجاه الثورات هي الأرضية
الصلبة التي تستند إليها أنظمة عربية في ممارساتها الإجرامية الحالية، وهو ما يجعلها تمضي من دون أدنى خوف من أي رد فعل دولي تجاه هذه الممارسات، لتصبح هذه الأنظمة خط الدفاع الأول عن المنظومة الدولية، وهزيمتها تعني بالتحديد انتقال الصدام الثوري ليواجه المنظومة الدولية مباشرة، وهي منظومةٌ تكرّس الفقر والظلم، وغياب المساواة الاقتصادية والسياسية. لذا، وعلى الرغم من محدودية تأثير أنظمة الاستبداد العربية على المنظومة الاقتصادية الدولية، إذا ما استثنينا دورها المحلي في تدمير الإنتاج الصناعي والزراعي، إلا أنها ذات دور مركزي في حماية النظام العالمي، وبجميع الوسائل الإجرامية الممكنة. الأمر الذي يدفع النظام العالمي إلى غض النظر عنها، خوفا من سقوطها وما سيترتب على هذا السقوط من تبعاتٍ سلبية على مصالحه، كما ذكر سابقا.
وعليه، تصبح جميع التصريحات الرسمية، أخيرا، والتي تدعو إلى التعامل مع الأسد كأهون الشرور، وتدعو إلى التقارب والتعامل مع آلة القتل الروسية والإيرانية، انقلابات ظاهرية في موقف المجتمع الدولي سياسيا وإعلاميا، بينما عمليا هي تجسيدٌ واقعيٌّ وحقيقيٌّ لممارسة النظام العالمي على مدار السنوات السبع الماضية، وتعبيرٌ حقيقيٌّ عن واقع الثورات التي تواجه اليوم وكلاء القمع والقتل المحليين، حلقة أولى في مسار نضالها الذي يفرض عليها التصدّي للنظام العالمي كاملا لاحقا. وهو ما يفرض علينا الكفّ عن التعلق بأوهام نصرة النظام العالمي إرادة الشعوب وحقوقها. ومن دون الخلط بين توجهات النظام العالمي ومواقف المجتمع المدني الدولي الذي يمكننا التواصل معه، من أجل إظهار حقيقة ما يجري لنا ولدولنا راهنا ومستقبلا، وإظهار مسؤولية النظام الدولي عنها سياسيا وأخلاقيا، هذه الحقيقة التي يغيّبها الإعلام العالمي، لدوافع نخبه الاقتصادية المسيرة لمجمل النظام العالمي ومصالحها. فلا خير لثوراتنا العربية من النظام العالمي الذي يوقن أن نجاح الثورات أول مسمار في نعشه، في حين يجمعنا مع كل شعوب العالم هدف العدالة والمساواة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.