الشبيهان.. القذافي وترامب

الشبيهان.. القذافي وترامب

28 يوليو 2017

ترامب والقذافي .. حكم تهريجي

+ الخط -
من يتابع أخبار البيت الأبيض، منذ وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة، يصاب بالذهول من مدى الانحدار الذي وصلت إليه مؤسسة الرئاسة الأميركية، بل إنه سيهيأ له أنه يتابع أخبار حُكْمٍ تهريجي، كما كان الحال في ليبيا معمر القذافي، عندما كان الديكتاتور الراحل زعيما للبلد، وليس رئيسا كما كان يحلو له أن يقول، كما أنه كان رأس المعارضة فيه! الفارق أن النظام السياسي، في حالة ليبيا القذافي، كما في كثير من أنظمة جمهوريات "الموز" العربي وملكياته، هي أنظمة متخلفة مهترئة، تدور مع شخص الطاغية وجماعته أينما داروا، أما في الولايات المتحدة فإن الأصل أن النظام السياسي فيها مستقر راسخ، وقائم على أعراف مؤسسية عريقة. هذا هو المفترض، ولكن تحت ترامب، ثمّة حقائق عَرَّتِ الهشاشة المؤسسية بأسلوب فج. 
كثيرة الوقائع التي يمكن سردها لإثبات تلك الحقيقة الكاشفة التي تعيشها الولايات المتحدة اليوم. فمنذ انتخاب ترامب، أواخر العام الماضي، وتنصيبه مطلع العام الجاري، والنظام السياسي الأميركي ينتقل من فضيحة إلى أخرى، من دون إسدال الستار على أيٍّ منها. لكن أهم تلك الفضائح وأخطرها تتعلق بمعلوماتٍ عن تورّط روسي، في محاولة التأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومزاعم عن تنسيق حملة ترامب الرئاسية مع الروس، لتعزيز فرصه، وإضعاف فرص منافسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون. وحتى هذا اليوم، تجد إدارة ترامب نفسها غارقةً في وحل هذه القضية، والتي يتكشف، في كل يوم، أن حجم التنسيق، أو ربما التآمر، بين الطرفين (روسيا وحملة ترامب)، أكبر مما كان يظن، خصوصا مع وصول التحقيقات الآن إلى نجل ترامب نفسه، دونالد ترامب الصغير، وصهره ومستشاره، جاريد كوشنر. ولعل من المهم التذكير هنا أن نيران هذه القضية أتت على أول ضحاياها، وهو مستشار الأمن القومي المطرود في شهر فبراير/ شباط الماضي، الجنرال مايكل فلين، والذي لم يكمل في منصبه شهرا، ولا يوجد ما يفيد بأن نيران هذه القضية الملتهبة لن تأتي على مزيدٍ من الشخصيات المحيطة بترامب، بل إنها قد تصل إليه هو نفسه.

أمام تزايد استعار نيران هذه القضية، بدل أن يحاول ترامب إطفاءها نجده يزيد في تأجيجها
 وإثارة الشكوك أن ثمّة شيئا يخفيه. فهو لم يكتف بطرد مدير جهاز التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي)، جيمس كومي، في شهر مايو/ أيار الماضي، بسبب رفضه إغلاق التحقيق في القضية، بل إنه الآن يشن حملة شرسة علنية على وزير العدل، جيف سيشنز، لدفعه إلى الاستقالة. جريمة سيشنز، في نظر ترامب، أنه تجرأ على أن يعفي نفسه من الإشراف على التحقيق في موضوع التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، ما أدى إلى تعيين محقق خاص مستقل، هو مدير "أف بي آي" الأسبق، روبرت مولر. المثير هنا أن سيشنز قام بما كان ينبغي عليه القيام به لضمان نزاهة التحقيق، فهو كأحد أهم داعمي ترامب للرئاسة خلال عضويته (أي سيشنز) في مجلس الشيوخ الأميركي كان قد التقى السفير الروسي في واشنطن غير مرة، لكنه لم يفصح عن اللقاءات أمام اللجان المختصة في مجلس الشيوخ، والتي عقدت جلسات استماع معه، للنظر في أمر تثبيته وزيرا للعدل، وهو ما عرّض مصداقيته وحياديته لشكوك كبيرة.
نعلم اليوم أن سيشنز كان قد ناقش مع السفير الروسي الانتخابات الرئاسية، وهو ما كشفه تنصت أجهزة الاستخبارات الأميركية على اتصالات السفير الروسي مع موسكو. ومع ذلك، لا يزال ترامب غاضبا من وزير العدل "الضعيف للغاية" و"المحاصر"، بل ويطالبه بفتح تحقيقٍ جديد في بريد كلينتون الإلكتروني، على الرغم من أن التحقيق كان قد أغلق العام الماضي، ما أثار ردود فعل غاضبة، مخافة تسييس وزارة العدل الأميركية. ولا يتوقف ترامب في سلطويته عند ذلك الحد، وهو كان قد سبق له أن هاجم القضاء واستقلاليته، بل إن معلوماتٍ مصدرها البيت الأبيض تفيد بأن ترامب يفكر أيضا في طرد المحقق الخاص مولر، كما فعل مع كومي من قبل. أبعد من ذلك، قالها ترامب صراحة غير مرة بأنه يتوقع ولاء شخصيا له، وكأن أميركا بلد ديكتاتوري، يتمحور حول الرئيس، لا الدستور.
كل ذلك في كفة، والمعلومات التي كُشِفَ عنها قبل أيام أن فريق محامي ترامب ينظر في سلطة العفو التي يملكها، في كفةٍ أخرى. من الناحية الدستورية، يملك الرئيس صلاحية إصدار عفو عن أي جريمة فدرالية ارتكبها أي شخص، لكن الجديد هنا أن مستشاري ترامب القانونيين ينظرون في مسألة سلطته في إصدار عفو عن نفسه، في حال ما وصلت التحقيقات إلى شيء يدينه. ليس لمثل هذا الفعل سابقة تاريخية سياسية وقضائية في الولايات المتحدة، ولا يعرف، على وجه التحديد، دستوريته من عدمه، مع عدم استبعاد تأييد المحكمة العليا له، في
حال وقع. وذلك في ظل وجود خمسة قضاة محافظين في المحكمة من أصل تسعة. وبغض النظر عن دستورية الأمر من عدمها، المؤكد أنه سيثير عاصفة سياسية، خصوصا في الكونغرس الذي يملك صلاحية عزل الرئيس ضمن تفصيلات كثيرة، قد تهدد استقرار المؤسسات في الولايات المتحدة، في حال ما أقدم ترامب على ذلك، لمصلحته أو لمصلحة أحد أقربائه.
باختصار، المؤسسية التي كنا نظنها راسخةً في الولايات المتحدة تتعرّض لامتحان عسير اليوم. يتصرّف ترامب كما القذافي، فهو الرئيس من ناحية، وهو رأس المعارضة والتمرّد على المؤسسة التي يقودها من ناحية أخرى. هذا رئيسٌ لا يتورع عن التشكيك في أجهزة مخابرات دولته، ولا عن تسفيه حزبه الجمهوري، ولا حتى عن العبث بمصالح بلاده الإستراتيجية، كما رأينا في الأزمة الخليجية التي تذكر تقارير صحافية كثيرة أن ترامب تبنى موقف دول الحصار ضد قطر، لأن الأخيرة رفضت يوما أن تدخل في مشروع تجاري فاشل بمئات ملايين الدولارات مع صهره كوشنر. كل هذا يتم والحزب الجمهوري الذي يملك الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب متواطئ، إلى حد كبير، مع ترامب، من أجل مصالح سياسية آنية ضيقة، في حين تتعرّض مصداقية النظام السياسي الأميركي واستقراره ومصالحه إلى أخطار كارثية، لا يبدو أنها تعني كثيرا منهم اليوم.
على أي حال، بعد ترامب، لربما فقد الأميركيون واحدة من سخرياتهم بنا، فقد كان عندنا القذافي، ولا زال لدينا كثيرون من أشباهه اليوم، وهم عندهم ترامب. لا أحد أحسن من أحد.