العشوائيات.. عود على بدء

العشوائيات.. عود على بدء

26 يوليو 2017
+ الخط -
يقول المثل الشعبي: ما جابني على المرّ غير الأمرّ. وما أكثر المرارة في حياة شعوب منطقتنا العربية، بل إنها تكاد تكون لون الحياة. تحيلنا الأحداث التي وقعت بسبب مواجهات بين ساكني جزيرة الورّاق النيلية المصرية وقوات الشرطة والجيش، قبل أيام، إثر محاولة الجهات الحكومية إخلاء الساكنين بالقوة، أصيب خلالها عشرات من المحتجين وعناصر الشرطة والجيش، وقتل مواطن من الساكنين. تحيلنا إلى استعراض واقع غالبية المدن العربية، إذ لا تخلو مدينة، مهما بلغت من التنظيم، من العشوائيات، وسورية نموذج لأحياء البؤس هذه التي تحيط المدن، مثل إسوار فج يدل على البشاعة البشرية، عندما تنحدر إلى ما بعد الدرجة الأخيرة في السلم الأخلاقي الهابط، في حقب الظلم والقهر والاستبداد والاستعباد.
الملبس والمأوى والمأكل، أبسط بديهيات الحق البشري، ولو أردنا التفصيل أكثر من أجل الاقتراب من الحقوق الإنسانية، فهناك قائمة تطول. لكن، عندما تستلب الحقوق البديهية الأولى التي يكاد الفرد من صنف البشر يشترك فيها مع باقي الأنواع، يصبح الكلام عن حقوق أخرى أمرًا عدميًا.
أين كانت الحكومات والأنظمة، عندما نمت هذه العشوائيات وتكاثرت بكل الفوضى المدفوعة بطاقة الحياة؟ العشوائيات هي حصيلة عقود من الإهمال والإفقار والإذلال والنكران، لكن الحياة التي هي أقوى من الموت، حتى لو كان هو نهايتها الحتمية، مثل مياه محصورة تجد لها 
مسارب ومنافذ تجري من خلالها، الحياة أقوى. ولأنها الأقوى، فهي تفرض حلولها، حتى من ضمن شقوق الواقع الذي يمنحها، ما يجعلها ترتكز على الأرض بشروط المؤقت، المتاح، الذي في متناول اليد. المهم أرض، حتى لو كانت بلا قيود ولا عقود. المهم احتمال جدران وسقف، حتى لو كان من الصفيح أو الأغصان اليابسة، وإن توفر بعض الحديد والإسمنت، يمكن بناء ما يشبه البيوت، ويمكن لهذه البيوت أن تنمو وتكبر وتتراكم، عندما يكبر الأبناء ويتزوجون، وتصبح لديهم عائلات، وهكذا تتشكل أحياء البؤس، وتتشكل معها هوية جمعية، ويتشكل أيضًا مجتمع له فضاؤه وقوانينه الناظمة، وله جسده الذي يلوذ به أبناؤه، ويدافعون عنه، إنه مجتمع المهمّشين المنبوذين المقهورين، لكنهم، لكونهم ينتمون إلى الجنس البشري، لا بد من أن يدركوا ذاتهم، وخصوصا عندما يدركون الآخر الذي ينتمي إلى العالم الثاني، أو العالم الأول أو الآخر، الذي من خلاله يدركون الهوة المرميين فيها.
بات الحديث عن هذه العشوائيات التي كانت النواة الأكبر لانتفاضة الشعب السوري، أمرًا مكرورًا، لكنه قرينةٌ لواقع هذه الشعوب ومآلاتها.
كما أن العشوائيات تتطور أيضًا، أو المشاريع التي تبنى على أساس المخالفات، مع فارق كبير وبنيوي، من حيث الدافع وراءها. العشوائيات السابقة هي عشوائيات البؤس، والتمسّك بحق الحياة، بينما صارت المدن السورية، في مناطق كثيرة، وخصوصا المناطق التي يديرها النظام قائمة على المخالفات المستفيدة من استفحال الفساد، ومن اقتصاد الحرب بكل تغوّله. نشأت طبقة من أثرياء الحرب الذين جمعوا رؤوس أموالهم بطرقٍ ليست فقط غير نزيهة، بل وضالعة في الإجرام، طبقة بلا ماضٍ ولا قيم ولا منظومة معرفية، ولا رصيد علمي، طبقة من تجار الموت أحكموا قبضتهم على أجساد المدن التي هي بالأساس صارت بلا هوية، تعتز بها بسبب ظروف الفساد الحكومي، والترهل الإداري السابقة للأزمة السورية، حيث تكاثرت المشاريع العمرانية بشكل ورمي، كثير منها قائم فوق أراضٍ تعود ملكيتها للدولة، ويتعدّى كثير غيرها على المرافق العامة، وغيرها يشوّه الأحياء القائمة، الفاقدة جماليات المدنية وخدماتها بالأساس. صارت أحياء مدن بحالها كتلةً من المخالفات، فمن لديه غرفة في طابق أرضي، يسعى إلى تحويلها إلى عقار تجاري، يوسعها ويتمادى بها على المساكن الملاصقة، وإذا اضطر الأمر، فالأرصفة متروكة لقضمها وإلحاقها بعقاره. صارت المدن تتكاثر بدون مرافق عامة تخدم حياة الساكنين، وتنظم نشاطاتهم، لا حدائق، لا أرصفة، لا مواقف سيارات، بنية تحتية مهترئة، والمواطن مجبرٌ على دفع الضرائب التي تفرضها الحكومة، ضرائب لا يفهمها، لكنه يؤديها لكي ينعم بشرف رتبة المواطن، كما ترسم له. إدارة محلية، خدمات، مجهود حربي، ضريبة إعمار، طابع شهيد، ورسوم أخرى، هكذا تسمّى، وليست الإضافة من عندي، هي مبالغ تضاف إلى أية فاتورةٍ تحت هذا المسمى "رسوم أخرى".
هذا النمو الورمي المخالف المتعدي ليس على أملاك الدولة فقط، بل على كرامة الإنسان، 
وعلى حق أي فرد بمدينته التي يفترض أن تكون صالحة للعيش، وليست مكان شقاء وتعذيب، وتعدّ على قيم الجمال، لم يحل مشكلة الحقوق بحدّها الأدنى، حق أن يكون للإنسان بيت يأوي إليه، فأسعار العقارات ضرب من الجنون، كما أنها لم تحل مشاكل السكن، لأن الإيجارات مخيفة، ليس في العاصمة وحدها، بل في بقية المدن، في وقتٍ ما زال فيه وسطي الدخول لا يتجاوز الأربعين ألفًا. من أين لموظف راتبه أربعون ألفًا أن يستأجر شقة بأربعين أو خمسين؟ وكيف يعيش ويطعم أطفاله ويداويهم ويعلمهم؟ كيف يتدبر حياته من أبقته الحرب على تخوم الحياة الموحشة الظالمة؟ لم يهرب في زوارق الموت، لم يلجأ إلى مخيمات الذل في الجوار؟ فيما لو نفد من حمل السلاح ولم يلتحق بالجيش أو أي فريق مقاتل؟.
وأولئك السوريون المتروكون لكل أنواع البازارات والمساومات الرخيصة، والفتن وإثارة الأحقاد والنزعات العنصرية تجاههم في مخيمات اللجوء القريبة، الذين تنتهك كل حقوقهم بما فيها حق العودة الذي لا يتركون لهم حرية قراره، إلى أين سيعودون؟ إلى أنقاض وأطلال قراهم ومدنهم التي صارت أثرًا بعد عين؟
هل سيكون هناك حل غير العشوائيات؟ وهل سيقف مجتمع العشوائيات ساكتًا أخرس أمام آلات الهدم الجبارة المدعومة بقراراتٍ حكوميةٍ لإزالة المخالفات التي هي في حقيقتها إزالة حيواتٍ، أو يهرب منها، أم إنه سيواجهها بصدره العاري وأحلامه المكبوتة وقهره المتراكم على مدى عمره، وعمر آبائه وأجداده؟