الحق دائماً على الطليان

الحق دائماً على الطليان

22 يوليو 2017

مشهد من توسكانا في إيطاليا (Getty)

+ الخط -
يقيناً أنني لم أكن أرى طريق الساحل السوري، حينما كنت أنتقل من روما إلى توسكانا في سيارة ألبيرتو بارسي، صاحب البيت الذي استضافني في بلدة مونتي بلتشانو، في إقامة ترجمةٍ قصيرة. يقيناً أنني كنت في إيطاليا، فاللغة التي يتحدّث بها من أنا معهم هي الإيطالية، وأسماء الأمكنة إيطالية. ومع ذلك، شعرت وهلةً أنني أسير في الطريق إلى قريتي "الملاجة" في الساحل السوري، أشجار السنديان والبلوط التي تحيط طرفي الطريق، أحراش التوت البرّي، أو ما نسميه في قريتنا "الديس"، كروم الزيتون والعنب وأشجار التين، رائحة الشجر والتراب، السناجب التي تتقافز على أشجار السنديان. وحده كان مشهد حقول زهور عباد الشمس نافرا عن الذاكرة التي أصرّت على الحضور، وتمدّدت رافضة المغادرة. 

تشبه بلدة مونتي بلتشيانو معظم بلدات جبل لبنان وجبال الساحل السوري العالية. بلدة صغيرة جدا، على تلة عالية، لا يوجد حل وسط في طرقاتها، هي إما صعودا أو هبوطا. تنحدر انحدارا شديدا لتستوي، في أسفلها، مع سهلٍ ممتد على مساحة كبيرة، تنتهي ببحيرة ترسمانيا التي يُقال إن هانيبال قدم إليها من أفريقيا، مع مائة فيل وجيش كبير. ونصب فيها كمينا للقوات الرومانية، بقيادة القنصل نيبوس، في معركةٍ سميت باسم البحيرة، وانتصرت فيها قرطاجة يومها على روما، بيوت البلدة مبنيةٌ معظمها بالحجر الأسود، أو الحجر الغامق الشبيه بحجارة أبنية بلدة صافيتا. خشب شبابيكها وأبوابها أخضر، أو بني في انسجامٍ مذهل مع الطبيعة.
وبالطريقة نفسها التي تصنع فيها بلدات لبنان والساحل السوري الجبلية العرق البلدي، المشروب الكحولي المعروف، فإن غاليبة سكان مونتي بلتشيانو يصنعون النبيذ البلدي الفاخر، حيث يُتاح للزائر أو السائح مشاهدة الأقبية والأدوات التي تستخدم لصناعة النبيذ، والدّنان الخشبية الضخمة التي يتم تخزينه فيها. مثل النبيذ، سيجد الزائر أقبية تخزين زيت الزيتون وأدوات صناعته. تذكّرت هناك معاصر الزيتون القديمة في قريتي، وفي القرى المجاورة، حيث رائحة "المهل" النفاذة تطغى على كل رائحةٍ أخرى، والمهل هو ما يتبقى من الزيتون، بعد عصره وتصفيته.
سيخيّل للزائر، مثلي، في مونتي بلتشيانو، أنه يقضي إجازته مع أصدقاء قدماء، يعيشون في بيت كبير واحد. ليس في الأمر مبالغة، فليس فقط أنهم أليفون إلى حدٍّ تشعر أنك تعرفهم منذ زمن طويل، بل هو في الأداء اليومي لهم، في السلوك البشري العام الذي يميّز مجموعةً بشريةً عن أخرى، حيث تختفي تفاصيل الإيتيكيت التي يتفاخر بها الأوروبيون، لتظهر مكانها العفوية والصوت المرتفع والنبرة الغاضبة واستخدام لغة الجسد لإيصال الأفكار المطروحة، والحميمية المفرطة في التعامل مع الآخرين، وعادات الجيران الذين يُلقون تحيات الصباح والمساء بعضهم على بعض من النوافذ والشرفات بصوت عال، والنقاشات الحادّة التي يقاطعها الجميع بصوت واحد، حيث لا أحد يريد أن يسمع أحدا، فللجميع الرغبة بالكلام في وقت واحد، وللجميع القدرة على الزعل بعد النقاش، ثم التصرف كما لو أن شيئا لم يحدث.
نتصرّف، نحن العرب، على هذه الشاكلة. قلت لمضيفي ألبرتو وللكاتبة والمترجمة الإيطالية الصديقة، مونيكا باريشي، بينما كانت صديقتنا الروائية الكندية، كيم إيشلين، تضحك كلما تناقشت مع ألبرتو بلغة إنكليزيةٍ مكسّرة حول مسألةٍ ما، ما كان مهما لي في النقاشات هو الإدراك لدى الجميع أن ثمّة ثورة حقيقية حدثت في سورية قبل ستة أعوام، وأن نظاما، كنظام الأسد، لا يدعمه سوى المجرمين، وأن تركيز الميديا العالمية على الإرهاب الراديكالي الإسلامي هو نوعٌ من التعمية على الحقيقة، على الرغم من خطورة هذا الإرهاب، وتأثيره على ملامح المستقبل العربي والدولي، وأن الاتحاد الأوروبي لا قرار سياسي له خارج القرار الأميركي، لاسيما في الشأن السوري، وأن اجتماع العالم على القضاء على الثورة هو رفض العالم الديمقراطية في بلاد العالم الثالث.
ينبغي أن أقول أيضا إن ألبرتو ومونيكا وكيم وفرنشيسكا، الصحفية الإيطالية التي تكتب في السياسة، جميعهم قادمون من خلفية ثقافية يسارية، وهو ما يدحض نظرية شاتمي اليسار الأوروبي أو العربي.

دلالات

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.