أخطر من العدوان على الأقصى

أخطر من العدوان على الأقصى

21 يوليو 2017
+ الخط -
دائماً ما نسمع لازمة مفادها بأن الطرف الأجنبي الفلاني ما كان ليجرؤ على فعل كذا لو لم نكن كأمة غارقين في أوحال فشلنا. صحيح. ولكن الصحيح أيضاً أن هذا التعبير أضحى "كليشيهاً" مملاً، وتعبيراً عن الهروب من الواقع المرير الذي نعيشه، نحن العرب، إلى حالةٍ من الوَهْمِ لِنُبَرِّئَ أنفسنا من المسؤولية. مناسبة هذا الكلام ما أقدمت عليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي من إغلاق للمسجد الأقصى المبارك، ومنع صلاة الجمعة فيه، الأسبوع الماضي، لأول مرة منذ قرابة خمسين عاماً، عندما أقدم الإرهابي الأسترالي اليهودي، مايكل روهان، على إحراق المسجد نهاية أغسطس/ آب من عام 1969، فمنذ وقعت عملية إطلاق النار قرب باب الأسباط، وهو أحد بوابات المسجد الأقصى المبارك، يوم الجمعة الماضي، والتي نفذها شبان ثلاثة من مدينة أم الفحم داخل فلسطين المحتلة عام 1948 وقتل فيها جنديان إسرائيليان، أغلقت إسرائيل المسجد الأقصى المبارك أمام المصلين، واقتحمته وعبثت بمحتوياته وخزائنه، ثم فتحت بابين من أبوابه فقط، الأسباط والمجلس، أمام المصلين، بشرط أن يمروا عبر بوابات إلكترونية، ويخضعوا لتفتيش ورقابة إسرائيلية حثيثة عبر كاميراتٍ نصبت هناك. ومع أن المصلين رفضوا هذه الإجراءات الصهيونية، إلا أنه من الواضح أن سلطات الاحتلال تحاول توظيف العملية العسكرية ذريعة لترسيخ واقع جديد في المسجد الأقصى المبارك، ومحاولة تقسيمه زمانياً ومكانياً.
لنضع الآن هذا الحدث الجَلَلَ، المتمثل في العدوان على الأقصى المبارك، في سياق الواقع
الآسن لهذه الأمة. تَجَرُّؤ إسرائيل على العبث بقدسية الأقصى المبارك، المُشَبَّعِ بالرمزيات الدينية والقومية والوطنية، يعطيك انطباعاً أين وصل بنا حال الهوان والغثائية، خصوصاً وأن أنظمةً عربيةً تسارع إليها تخطب ودّها اليوم، بل إن منهم من يُبَرِرُ لها عدوانها. ألم يزعم مسؤول سعودي إن إسرائيل وافقت على فتح أبواب المسجد، بعد تدخل من العاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، عبر الولايات المتحدة، وبأن مسألة وضع البوابات الإلكترونية "أصبح اعتيادياً في الأماكن المقدسة بسبب الإرهاب الذي يضرب بدون تمييز، وفي أكثر الأماكن قدسيةً للديانات المختلفة"! أيضاً، لم تخرج جماهير هذه الأمة، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، بمئات الآلاف إلى الشوارع، دفاعاً عن مُقَدَّسِها الثالث. إسرائيل تقرأ ذلك وتحلله، وهي لم تتوقف يوماً، على مدى خمسين عاماً من احتلالها الشطر الشرقي من مدينة القدس، من تَجْريعِنا دفعاتٍ صغيرةً من الاعتداءات على الحرم الشريف والمدينة المقدسة، في مسعىً إلى تمييع الموضوع في قلوبنا ووعينا، وتحضيرنا الصدمة الكبرى التي قد تكون قادمةً، لا قدّر الله، وتتمثل في بناء هيكلهم المزعوم في قلب الحرم الشريف، وربما على أنقاض المسجد الأقصى وقبة الصخرة. وبهذا، فإن الإجراءات العدوانية التي قام بها الاحتلال الصهيوني بعد عملية "باب الأسباط" لا تغدو أن تكون أكثر من ذريعةٍ يتذرّع بها، مع أن الفلسطينيين هم الأولى في النظر في ذرائعهم، فهم من يرزحون تحت نير الاحتلال والقهر، واعتداءات الاحتلال المتكرّرة في الأقصى هي ما تبقي فتيل التوتر قائماً، ولهيب الغضب متفجراً.
وعودة إلى ما استهللنا به، وهو أننا نبحث عن ذرائع للهروب، كأمة، من فشلنا في التصدّي للعدوان الواقع علينا، داخلياً وخارجياً. إننا أمة منهكة مستنزفة، ينبغي أن نعترف أننا نعيش حالة تيه وفقدان وزن وغياب بوصلة. ينبغي أن نعترف أن تجرؤ الأجنبي على جَرْحِ كبريائنا الوطني أو القومي أو الإسلامي لن يتوقف حتى نعيد تعريف ماهيتنا وبناء ذاتنا الجَمَعِيْيْنِ. ولكن، قبل ذلك، ينبغي أن نجيب، نحن الشعوب، على أسئلةٍ مثل: لماذا لم تعد تحرّكنا الكوارث التي تحل بنا؟ لماذا لا يحرّكنا دمنا المسفوح في سورية والعراق واليمن؟ لماذا لا تخشى بعض أنظمتنا غضبتنا، نحن الشعوب، من خياناتهم وغدرهم؟ ما هو أهم من ذلك سؤالان مركزيان: كيف انتهى الحال بكثير من نخبنا الدينية والثقافية والفكرية والسياسية أن تكون مجرد أبواق اعتذارٍ عن تلك الأنظمة وغدرها؟ ولماذا لا يزال فيناً، نحن الشعوب، ضحايا تلك النخب، كثيرٌ ممن يعلي من شأنهم ويقدّمهم ويثني عليهم؟ يكفيك هنا أن تراقب بذهول كيف سقط "دعاة" مشهورون في فَخِّ تمجيد "بطولاتٍ" كاذبة لأنظمة وحكامٍ، بزعم نجاحهم في ضمان بقاء الوضع في الحرم القدسي الشريف على ما كان عليه قبل العملية.
هذه دعوة إلى النخب المُنْتَمِيَةِ إلى الذات، بغض النظر عن التفريعات الإيديولوجية هنا، بأن نعيد تعريف ماهيتنا وهويتنا كأمة، والعمل على ضبط بوصلتنا، والخروج من هذا التيه الذي نعيش فيه. إن خزان التضحية في هذه الأمة لم يفرغ، ولكن اليأس قد يكون بدأ بالتسّرب إليها من أن تضحياتها لا تُؤتي، في غالب الأحيان، أُكُلَها. تلك مسؤولية النخب، لا مسؤولية الشعوب. النخب هي المقصّرة لا هم. لقد بذل الشعب الفلسطيني، عقوداً طويلة، وما زال، الغالي
والرخيص في الدفاع عن أرضه وحريته وكرامته وَمُقَدَّسِ هذه الأمة، غير أنه خُذِلَ في جُلِّ المحطات. ولذلك، صحيحٌ أن تحرّكه، هذه المرة، ليس على مستوى تحرّكه في الماضي، على الأقل حتى اللحظة، وهو دوماً ما أثبت أن تضحياته أكبر من أن يتنبأ بها متنبئ، ولكننا ننسى أننا نحمّله أكثر مما يحتمل، وبأننا نحن المقصرون، لا هو، فذلك الشعب يحصد نتائج توهان هذه الأمة بأسرها، وعجز نخبه عن ضبط بوصلتها، وأبتلي بطامَةٍ أخرى، سلطة مسماة فلسطينية، ولكنها، ككثير من أنظمتنا العربية، تقوم بدور القيد على حرية ذلك الشعب وكرامته. وبالمناسبة، المنطق السابق لا ينسحب على الشعب الفلسطيني فحسب، بل على كثيرٍ من شعوبنا التي تضحّي من أجل حريتها وكرامتها كذلك.
حتى تصحو نخبنا من سَكْرَةِ تشرذمها وتصارعها على أسس إيديولوجية ومنافعية رخيصة، فإن هذه الأمة ستبقى تُسْتَنْزَفُ وتعاني، وستبقى تَجْتَرُّ ذكريات الماضي التليد، عندما كنَّا أمةً رائدة عزيزة منيعة. ولكن من دون أن تقدر على إعادة بعثه، أي ذلك الماضي التليد. صحيحٌ أن الشعب الفلسطيني، وهذه الأمة استتباعاً، قد ينفجران مراتٍ ومراتٍ جراء حجم الظلم والعدوان المسلطين عليهما، إلا أن فيضاناً عظيماً قد يكون مدمّراً أكثر منه بناء إن لم تنجح النخب السادرة في غيها في رَصْفِ قنواتٍ مُهَنْدَسَةٍ بشكل صحيح، تقود إلى الوجهة التي نريد كلنا.. إحياء وبعث جديد، قبل أن يأخذنا المَوْجُ جميعاً.