هل الفروق بين المدينة والريف إلى زوال؟

هل الفروق بين المدينة والريف إلى زوال؟

03 يوليو 2017

قرية الحجارة اليمينة (Getty)

+ الخط -
من التغييرات التي يطرحها تطور التكنولوجيا، وتقدّم وسائط النقل ووسائل الاتصال والتواصل، مسألة إعادة النظر في الهندسة السكانية والتخطيط العمراني، باتباع معالجة التكدّس في مدن كبيرة والفروق بين الريف والمدينة.
على مر تاريخ الحضارة، أقام بعض السكان في المدن، مقابل ريفٍ واسع، ودائمًا كانت المدينة، وخصوصا العاصمة، مركز الحكم والحاكم، ومركز الفئات الغنية، ومركز المهن ذات الدخل الأعلى، ومكان العمران والفنون والحياة العامة العريضة، حيث تنال القسط الأكبر من اهتمام الحكومات، وتنال كل المزايا، ويتشوّف سكانها على بقية سكان البلاد، مقابل بلداتٍ صغيرة وأريافٍ ممتدة، يغلب عليها العمل الزراعي بدخله الأدنى، ويُبادل سكانه منتجاتهم مع المدينة بأسعار رخيصة في مقابل منتجات المدينة مرتفعة الثمن. ويستمر الريف يورّد الدخل إلى الميزانيات العامة، بينما يُنْفَق الجزء الأكبر منه على المدن الكبيرة، وخصوصا على العاصمة، وتستمر الفروق الكبيرة في الخدمات المتاحة وفرص العمل والترفيه بين كل من الريف والمدينة، حيث تنال القرية خدمات تعليم وصحة وترفيه بدرجة أقل بكثير من المدينة، ويحتل سكان الريف مكانةً أدنى في السلم الاجتماعي، ويستمر ابن الريف يشعر بالدونية تجاه ابن المدينة، ويواجه أبناء الريف اتهاماتٍ بالسذاجة والتخلف، فقد فرضت هذه الثنائية نظرة دونية للريف من المدينة التي تستغل الريف بأشكال مختلفة.
على الرغم من أن التكدّس في المدن قديم قدم الحضارة البشرية، بقي معظم السكان يقيمون في الأرياف، حيث كان قرابة 90% من السكان قبل عصر الصناعة يعملون في الزراعة. وأكبر عواصم التاريخ ما كانت تربو عن بضع مئات آلاف من البشر. ولكن تكدس السكان في المدن بدأ يتضخم مع الثورة الصناعية منذ القرن الثامن عشر، وتقدّم وسائل النقل التي سهّلت الانتقال والتجمع ونقل السلع والبضائع بأسعار منخفضة، إلى أن بلغ التكّدس اليوم أرقامًا أسطورية،
فطوكيو تزيد عن 35 مليون نسمة، وجاكرتا تزيد عن 28 مليوناً، وتزيد سيؤول عن 26 مليوناً، وشنغهاي عن 23 مليوناً، ونيويورك وكراتشي ومومباي ومانيلا ومكسيكو وساوباولو كل منها عن 20 مليوناً، وتزيد القاهرة عن 18 مليوناً، وإسطنبول عن 14 مليون نسمة وغيرها، بما يُحدثه هذا التكدّس من مشكلاتٍ اقتصادية واجتماعية كبيرة. وفي زيارتي موسكو قبل قرابة شهر، وصلنا إلى مطار موسكو حوالى الثانية عشرة ظهرًا قطعنا خلالها عدة آلاف من الكيلومترات في نحو أربع ساعات ونصف الساعة، غير أن طريقنا من المطار إلى الفندق استغرق ثلاث ساعات، قطعنا خلالها بضع عشرات من الكيلومترات، أمضيناها في التذمر من ازدحام قاتل.
وصل هذا الميل إلى التكدّس السكاني إلى دول الخليج أيضًا التي لم تكن فيها مدن كبيرة من قبل، فطورت كل منها مراكز حضرية مليونية، وبدأت تصعد في المباني البرجية، على الرغم من وفرة مساحات شاسعة من الرمال، بما تتطلبه الأبراج من تكاليف مرتفعة لإشادتها، ثم تجهيزها بدورات ميكانيكية وكهربائية معقدة ومكلفة، تستهلك كثيراً من الطاقة، وتتطلب خبراتٍ لتشغيلها وتكاليف مرتفعة لإدامتها لتأمين الماء والصرف الصحي والتكييف والإنارة والمصاعد والتخلص من القمامة ودورات إنذار حريق وإطفاء، وبما تحمله من مخاطر أعلى لحدوث الحرائق، حيث يصعب إخلاء تلك الأبراج من سكانها في حال نشب أي حريق.
شكلت الفروق بين الريف والمدينة دافعًا مستمرًا للهجرة نحو المدينة، لكن هذه الهجرة مشكلة بحد ذاتها، سواء للمدينة أم للريف الذي يتم إفراغه. مثلاً يقدم كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان مئات مليارات الدولارات سنويًا، دعمًا للزراعة والريف، لكي يبقى سكانه مستقرّين فلا يهجروه إلى المدينة. ولكن هذه سياسة مصطنعة ومكلفة، ولا مستقبل لها، ومن العسير الاستمرار بها.
من جهة أخرى، يخلق شيوع التعليم وانتشار وسائل الإعلام والاتصال والتواصل، إدراكًا ووعيًا أعلى للفروق بين الريف والمدينة، بما يؤدي إلى ارتفاع مطالب الأفراد وتوصيات الخبراء لإعادة تنظيم الهندسة السكانية والعمرانية، بما يحقق ديمقراطية وعدلًا أفضل، وتوازنًا بين ما يحصل عليه كل مواطن من فرص عمل وخدمات ورفاه، بغض النظر عن مكان إقامته، وتقليص الفروق بين الريف والمدينة.
وينتج تطور التكنولوجيا ووسائل النقل والاتصال والتواصل علاقة جديدة بين المدينة والريف، وفهمًا جديداً لمكان العمل والعيش والمدرسة والجامعة وغيرها، ولمجمل الهندسة السكانية والعمرانية، وسنرى نتائجه على نحو متزايد في عقود مقبلة.
اليوم، ومع تطور تلك الوسائل، تتراجع ضرورات التجمع في حواضر كبيرة، وإذ يمكن للفرد
أن يقيم في قريةٍ قريبة أو بعيدة، ويملك كومبيوترًا وتلفزيونًا وموبايلًا وشبكة إنترنت، أن يعيش حياة المدينة تقريباً، إذ يمكنه أن يقرأ الصحف، وتأتيه الأخبار، ويشاهد الأفلام والأعمال المسرحية، وأن يشتري عبر الإنترنت ما يريد، ويسدد القيمة ببطاقته المصرفية، ليصل إليه ما اشتراه إلى مكان سكنه في زمن قياسي. والأهم أن أعمالاً ووظائف ومهناً كثيرة أصبح في الوسع القيام بها من البيت، أو من أي مكان على سطح الكرة الأرضية، وهذا يجعل مكان العمل القديم منتشراً، ولا يتطلب الوجود الفيزيائي دائمًا لجميع المشتغلين في المكان نفسه، بل حتى وحدات الإنتاج الصناعي يمكن أن تكون اليوم موزعةً في أعماق الريف، بدلًا من تجميعها في مكان واحد، طالما أن النقل مؤمّن ورخيص وسريع ومنتظم، وتؤمن سلاسل التزود احتياجات المنشآت الصغيرة من مواد أولية ومستلزمات، وتنقل منتجاتها إلى مشتريها. ويتغير مفهوم المدرسة والجامعة، ويتقدّم التعليم الافتراضي بما يغني عن الوجود الفيزيائي في المدرسة والكلية. ومن جهة أخرى، تتطور ما تسمى "الحكومة الإلكترونية"، بمعنى أن إجراءات ومعاملات حكومية كثيرة لا تحتاج للزيارة الفيزيائية للمكتب الحكومي، فاليوم يمكنك أن تدفع الضرائب، وتحصل على بطاقتك الشخصية وجواز سفرك وبطاقة قيادة سيارتك، وأن تعمل وكالة لشخص آخر، وأنت في بيتك، وأن تشتري أسهمًا في السوق المالية، وأن تفعل أشياء وأشياء وأنت في بيتك، أيّا كان مكان هذا البيت، قريبا أم بعيدا. كما أن نمو الميل إلى اللامركزية في تنظيم الدول يهيئ ظروفًا مناسبةً لتطورٍ أكثر توازناً بين أطراف البلاد، بما يعزّز فرص انتشار السكان، بدلاً من تجمعهم في مدن كبيرة، كما هو الآن.
على الرغم من بقاء الإنسان بحاجة ماسّة للاجتماع البشري، فإن هذا لا يتطلب أن يتكدّس ملايين البشر في مكانٍ مكتظ واحد. ومن جهة أخرى، لا يمكن إقامة منشآت رياضية ضخمة، ومسارح ضخمة، ومراكز ترفيه متطورة في كل مكان. وهذا يسبب ميلاً نحو التمركز والتركز السكاني، ليكونوا قريبين من هذه المنشآت. ولكن، حتى هنا: هل البشرية بحاجةٍ لملاعب كرة قدم، تتسع لـ 80 ألف متفرج، ومسارح يتسع كل منها لبضعة آلاف من المشاهدين ومدن ألعاب ضخمة؟ ألا تكفي شبيهاتها على قياس صغير؟
وحتى لو استمرت المدن الكبيرة، واستمرت المنشآت الثقافية الكبيرة، وهي موجودة وبكثرة، فهذا لا يشترط تكدّس ملايين البشر بالقرب منها، بل يمكن تنظيم زياراتها في مناسباتٍ من أماكن الإقامة البعيدة.
المدن الكبيرة موجودة اليوم وبكثرة، وليس من السهل تصغيرها، وقد تكدّس بها كثيرٌ من العمران والمصالح، بل يقوم النظام السياسي عليها، لكن تصغيرها يمكن أن يتم تدريجياً، ويتطلب إعادة النظر بالهندسة السكانية وهندسة العمران، ونشر أماكن العيش والعمل والإنتاج وفرص العمل والخدمات عبر البلاد، بدلاً من مركزتها، بما يجعل الفروق بين الريف والمدينة تتقلص، وتضمر تدريجيًا.
لدفع إعادة النظر في الهندسة السكانية والعمرانية نحو الأمام، تحتاج البلدان إلى خيال مخططي المدن وخيال علماء الاجتماع وخيال خبراء إدارة المجتمعات البشرية، بل وحتى خيال الأدباء، لتطوير مفاهيم جديدة للهندسة السكانية والعمرانية.