أولئك الحمقى الطيّبون

أولئك الحمقى الطيّبون

03 يوليو 2017

(لقمان أحمد)

+ الخط -
تفيد مصادر طبية بأن الشخص المتحقّق اجتماعيا، المحبوب من المحيطين، والذي يحظى برصيدٍ معقولٍ من الأصدقاء الحقيقيين الذين يشاركونه أفراحه وأحزانه وأحلامه وأوجاعه يعزّزون ثقته بنفسه، ويدفعونه باتجاه مزيدٍ من الإنجازات، ويوجدون عند الحاجة لهم، ويمنحونه الإحساس بالاطمئنان والسكينة والأمل أن الدنيا بخير يكون أقل عرضةً للإصابة بأمراض العصر المتعلقة بالقلب والضغط والسكري، والاكتئاب المزمن، والمزاج السوداوي، والقلق والتشاؤم، والتراجع النفسي الذي يحيل حياة الواحد منا إلى جحيم، ويُفقده الرغبة والحماسة في كل شيء، فيصبح طعم الحياة فائق المرار، عديم المعنى، ما يؤدي، في حالات كثيرة، إلى الانتحار، تحت عنوان الوحشة والعزلة والاغتراب. هذا طرح منطقي، بطبيعة الحال، ينسجم مع منطق الأمور التي تؤكد فطرة الإنسان وطبيعته كائنا اجتماعيا، ينتمي حكما إلى الجماعة، يستمد منها أسباب البقاء، ويحتاج إليها في كل مراحل حياته، بحيث يصبح قرار الانسلاخ والاستغناء عنها مظلةً نفسيةً لازمةً أمرا غير ممكن التحقق من الناحية الواقعية. وقديما قالوا، في الأمثال الشعبية، "الجنة من غير ناس ما بتنداس". يمكن تخيل صعوبة الفكرة، بل والاختناق من مجرد الفرجة والخوض في تفاصيلها، حين متابعة أفلام عن أشخاص نجوا من حوادث تحطم طائرات، ووجدوا أنفسهم منعزلين في جزر نائية منسية، يصارعون قوى الطبيعة بشراسةٍ واستماتةٍ، من أجل بقاءٍ سيبدو، في نهاية الأمر، غير مجدٍ، إذا لم يتوّج بالتحاق ضروري بالمجموعة الإنسانية في نهاية المطاف. نحن بحاجة للآخر، كي نتأكّد من حقيقة وجودنا على هذه البسيطة ومعناه. نسعى إلى نيل الحب والإقرار والقبول حاجات نفسية فطرية، لا مجال للتنصل منها، بذريعة الزهد والاستغناء، ذلك أن فكرة وجود من يسندنا في هذه الحياة القاحلة الجافة كفيلٌ بالتخفيف من وقع خطوها الثقيل على أرواحنا التي يعتريها الوهن في لحظة ما.
من هنا، نعطي الصداقة أهمية كبرى في سلم أولوياتنا، ونقيّم مدى توازن الشخص النفسي، ومقدار سعادته بحسب عدد الأصدقاء حوله، ومكانته بينهم. وننظر بعين الشفقة والرثاء إلى من يمضي أيامه وحيداً صامتاً، تنحبس الكلمات في جوفه، إذ ليس هناك من يشاركه ثرثرةً بسيطةً عن حالة الطقس، يتحول خطابه تدريجيا إلى مونولوج داخلي ممتد يُفقده، مع مرور الأيام، مهارات التواصل العفوية مع الآخرين. يستمرئ الوحدة، ويفقد قدرته على البقاء طويلاً بصحبة الآخرين، فيوصم بين الناس كائنا غريب الأطوار يتفاداه الجميع. ودائماً يبدو منظر رجل أو امرأه يتناول وجبتة منفرداً، حتى لو كان ذلك في أفخم المطاعم، مدعاةً للحزن وللحرج أيضاً، حتى لو تصنّع الانهماك في تواصلٍ افتراضيٍّ، لا يغني عن شعورٍ قاتلٍ بالوحدة. ثمّة نمط شائع من البشر، محبوب من الجميع، يبدو للوهلة الأولى نجماً محسوداً لا يشق له غبار الجميع، يخطب ودّه، بوهم أن لديه رصيداً كبيراً من الأصدقاء، لكنهم، في واقع الأمر، مجرد معارف، نتبادل معهم عبارات الود التي لا تتجاوز السطح، لا يضيفون شيئاً حقيقياً. وفي النائبات، سرعان ما يتبخرون. وثمّة صنفٌ عنيدٌ لا يتربى بسهولة، يعتبر، من وجهة نظر كثيرين، مفرط الطيبة، كي لا نقول أحمق، سريع الثقة بالآخرين، ميالاً إلى تصديق قيم الخير في النفوس. يتلقى الصدمات تباعاً، ويداري إحساسه المرير بالخيبة والخذلان من أصدقاء قدم لهم، مختارا ومن دون توقع لمقابل من أي نوع عبر السنين، كل ما يملك من طاقةٍ على الحب والاكتراث والعون، فقابلوه بالجحود والنكران والغدر والخيانة. وعلى الرغم من ذلك كله، ما زال رافضاً الاستماع إلى نصائح الآخرين بضرورة توخّي الحيطة والحذر، مواصلاً طريقته في العطاء والثقة والمحبة، محاولاً تبرير سقطات الآخرين. وعلى هذا النوع الأحمق الجميل من البشر تحديدا، يُعقد الرهان ويتجدّد اليقين بجدوى الحب طاقةً كونيةً هائلةً، ينبغي أن نستظلّ بدفئها.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.