أبناء الحياة.. أي حياة؟

أبناء الحياة.. أي حياة؟

03 يوليو 2017

نحو تفكيك ثقافة وصاية الأهل والدولة معا (Getty)

+ الخط -
في كتابه "إيميل"، يضع جان جاك روسوّ قواعد لتربيةٍ تكفل، برأيه، تنمية الاستعدادات الخيّرة في الإنسان، بالحفاظ على حريته، وإبعاده عن ضغط المجتمع الذي تسبب أساسا في فساد الإنسان، وتشويه كل ما يخرج حسنا من بين يدي الخالق. لكن مشقة التربية تفوق ذاك الشغف المتساهل الذي يجرف كثيرين بإنجاب أطفال، حتى روسو نفسه أعلن، ذات مناسبةٍ، أنه وضع، قبل أن يكون لديه أولاد، أربع قواعد للتربية، لكنه بعد أن حظي بأربعةٍ منهم، لم يعد يملك أي قاعدة.
أصبحت التربية علما وفنا في آن معا، يعكس تطوّرها مستوى التطور الحضاري. وفي المجتمعات التقليدية، لا تزال التربية ممارسةً عملية ترتبط بالموروث الثقافي، لا بالعلم، ولا بحاجات المجتمع، وتسخر تلك المجتمعات من أساليب التربية الحديثة، طالما كانت أقوال القدماء حكما خالدة، تفوق الآراء المعاصرة، إذ لم يترك الأقدمون شيئا إلا قالوه.
في دول أوروبية، في مقدمتها السويد، مصادرة حق الوالدين في رعاية أبنائهما أمر قانوني، متى قرّرت السلطات الاجتماعية "السوسيال"، أو نظراؤها من الأجهزة المختصة، أن أحد الوالدين، أو كليها، غير قادرين على تأمين مستوىً مناسبٍ من الرعاية يليق بأطفالهما، لتتولى الدولة رعايتهم، أو تأمين عائلاتٍ بديلة تحت إشرافها. وفي كل مرةٍ تطبق فيها هذه القوانين على لاجئين عرب ومسلمين، تشتعل تجمعاتهم ومواقع تواصلهم الاجتماعي احتجاجا.
هنا، تخرج القضية عن مسارها القانوني (تطبق فيه القوانين على الجميع من دون استثناء لاجئين ومواطنين وغيرهم) إلى فضاءات اتهامٍ بتمييز عنصري، يمارس بحق اللاجئين، وتعسّف واستبداد، يحرمان الوالدين من حقهما في أبنائهما، وتشكيكا بمحبتهما لهم وتفانيهما في سبيل تربيتهم.
وبدل احتجاجٍ انتقامي، وشغبٍ في وجه جهاز مهني (على الرغم من عدم عصمته عن الخطأ، وأنه يستند إلى معايير موضوعية في التنمية الاجتماعية والبشرية تفتقدها كثير من بلدان
اللاجئين، ناهيك عن قضاء مستقل)، تمكّنت بعض عائلات اللاجئين، بوسائل قانونية وقضائية، من استعادة أبنائهم، حين أثبتوا بالأدلة والبراهين أهليتهم لرعايتهم. ومعنى ذلك، تناغم أسلوبهم التربوي قدر المستطاع وأساليب التربية الحديثة التي تسندها دساتير تلك الدول، فلم يفرضوا على بناتهم، مثلا، ارتداء الحجاب دون اختيارهن، ولم يسيئوا معاملة أبنائهم جسديا ونفسيا، ناهيك عن احتفاظ الأبناء أنفسهم برغبتهم في العودة إلى أسرهم الأصلية.
كان جبران خليل جبران من أوائل المهاجرين العرب إلى العالم الجديد (أميركا)، هرباً من الاستبداد، وراء ظروفٍ معيشيةٍ واجتماعيةٍ أفضل. تلمّس جبران مبكّرا التحولات المتسارعة في الغرب التي انطلقت على أعتاب الحرب العالمية الأولى، ليعلن منتقدا تقاليد التربية المشرقية، أن" أولادكم ليسوا لكم.. أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها. بكم يأتون إلى العالم. ولكن ليس منكم.. ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم". أدرك جبران الفارق في تحولات العلاقة بين الآباء والأبناء، من علاقةٍ بيولوجيةٍ قائمةٍ على القسر والتملك، إلى علاقةٍ طوعيةٍ، قائمةٍ على الاستقلالية، والمحبّة المتبادلة.
بعد الحرب العالمية الثانية وآثارها المدمرة، توجهت دول أوروبية إلى توسيع برامج الرعاية الاجتماعية، وأصبحت دساتيرها تنصّ على تدخل الدولة في توفير التعليم المجاني والإلزامي، والرعاية الصحية، والاهتمام بشؤون المرأة والطفل والمسنين، وتأمين العمل والمسكن.. في هذه المسارات، ولد نظام الضمان الاجتماعي، المؤسس الفعلي لدولة العناية الأوروبية التي حلّت مكان دولة الحد الأدنى التي اكتفت بحفظ الأمن والحرية والملكية.
في ظل دولة العناية، لم تعد التربية مهمة الأسرة فقط، بل تدخلت الدولة هنا بشكل كبير، تعالى في ظلها صوت الأجيال الجديدة الرافضة أفكار جيل حربين عالميتين، دمّرتا القارة الأوروبية، ولم تعد تقبل الوصاية الدائمة لآباء تقليديين، يردّدون عباراتٍ يمنّون فيها على أبنائهم بما قدموه لهم، مطالبين بردّ الجميل. في ظل تلك الدولة، يلقّن الطفل، منذ المراحل الدراسية المبكّرة، حقوقه بوصفه إنسانا ثم طفلا، وانطلاقا منها، يتعلم أن يقول لا.
هذه الـ "لا" في الموروث الثقافي لأولئك اللاجئين مرفوضة، لما فيها من تمرّد، وانحرافٍ بالمجتمع عن مساره المرسوم له مسبقا. هذا الموروث المستند إلى مروياتٍ متداولةٍ على نطاق واسع، من أحاديث منسوبةٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، التي لا يخلو غثّها من ضعف، وتعسّف في الرواية، وتناقضٍ في الدراية، أصبح ركيزة التربية الموروثة التي يتحول فيها الفعل البيولوجي "الإنجاب" إلى مسألةٍ اقتصادية بحتة، باعتباره صكّ ملكية الآباء لأبنائهم، وتتحوّل فيه وظيفة التربية إلى كسبٍ، واستثمار بانتظار قطف الثمار: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا أتى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: أنت ومالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنّ أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئاً.
أما ثقافة الطاعة، المستمدة من استبداد شرقي عريق، فنجدها في مروياتٍ تجعل من السوط ركيزة نفسية ومادية لعملية التربية: "علِّقوا السوط حيث يراه أهل البيت؛ فإنه أدب لهم". وفي أحسن الأحوال: "إذا ضرب أحدكم فليتَّقِ الوجه". و"إذا ضرَب أحدكم خادِمه فذكَر الله، فارفعوا أيديكم". هذا غيضٌ من فيض تحت عنوان عريض: نموذج مطلق للخير، على التربية الإعداد له، وعلى الأجيال اللاحقة إعادة إنتاجه وتكراره.
اللاجئون القادمون هربا من قهر اجتماعي، ومجتمعاتٍ لم تعرف بعد دولة القانون، ولا تزال
فيها قوانين الأحوال الشخصية والأسرة من دون تحديثٍ وحداثة، ما أدى إلى تفتيت مجتمعاتهم، وتمزيق نسيج أسرهم وعائلاتهم، ليسوا على استعدادٍ بعد لدفع ضريبة انتقالهم إلى عالمٍ جديد، علّقوا عليه أحلامهم. والأحلام ليست وردية دائما، مع ثقافةٍ لا تتناسب ودولة العناية، حيث الجميع مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وأمام القانون، ولا يترك فيه للاعتبارات النسبية، الدينية والثقافية، سوى هوامش ضيقة، في دولةٍ لجميع مواطنيها، ترى التمييز، بإبراز تلك الاعتبارات، على حساب قواسم المواطنة والعيش المشترك.
للهروب من القهر والجوع والاستبداد، لا يكفي عبور الحدود، بل لا بد من تجاوز ذاك الموروث الثقافي التربوي، الذي طالما شرعن الاستبداد في مجتمعات اللاجئين، وثقافة الوصاية، بدءاً بوصاية الأهل على الأبناء، وانتهاء بوصاية "الدولة" على "رعاياها". ولا بد من إدراك الفوارق بين ثقافتين، استقرّ حراك الأولى عند النظر إلى الابن ـ المواطن، بوصفه موجودا بذاته ولأجلها، وأخرى استقرّ ركودها عند النظر إليه بوصفه موجودا لغيره وبه. لذلك، يكون صراع الأجيال في الأولى في حدوده الدنيا، ويتحوّل في الثانية إلى عدمية، حين لا يسير هذا الصراع لصالح الأجيال الجديدة.
ترتوي تلك العدمية من عَدمٍ كرّسناه، نحن، السابقين، جيل الطائفة، والمذهب، والدين والقبيلة، والثورات المحبطة، والحروب الأهلية، والـ "لا دولة". وما زلنا نصر على توريث كل عَدمٍ للأجيال اللاحقة، بمصادرة حقهم في حياةٍ يشتهونها. فأي مستقبلٍ تركنا "لأبناء الحياة" هؤلاء، وأي حياة؟
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.