رافضون للتطبيع ومدافعون عنه في تونس

رافضون للتطبيع ومدافعون عنه في تونس

17 يوليو 2017
+ الخط -
أصبح الفنان ميشال بوجناح (كوميدي فرنسي من أصول يهودية- تونسية، ولد في تونس عام 1952، وقضى طفولته فيها، قبل أن يسافر مع والديه إلى فرنسا عام 1963) الذي سيشارك في عرض له في مهرجان قرطاج الدولي يوم 19 يوليو/ تموز الجاري، في قلب الصراع السياسي والثقافي، حول موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني، بل إنه أثار انقسامًا سياسيًا وثقافيًا كبيرًا بين النخب الفكرية والسياسية، وعلى صعيد المجتمع المدني التونسي، بين رافضي التطبيع والمبشرين والمدافعين عنه. علمًا أنه سبق أن أُلغي عرض لبوجناح ضمن فعاليات مهرجان الضحك في تونس العام 2009، بسبب حملة مقاطعةٍ شنت ضده، عقب تصريح قال فيه إن إسرائيل "أقرب إليه من كل الشعوب"، كما حمل الفلسطينيين "مسؤولية تعريض أبنائهم" للرصاص الإسرائيلي.
أصدر رافضو التطبيع مع الكيان الصهيوني، والمنضوون في إطار المجتمع المدني التونسي بمكوناته التعدّدية (من نقابات وأحزاب سياسية وجمعيات)، الذي يحتل مركز الطليعة في التصدّي لمحاولات اختراق النسيج الثقافي التونسي، بصورة متفاقمة ومفضوحة من خلال أنشطةٍ وتظاهرات ثقافية رسمية مشبوهة، تصبُّ كلّها في اتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني، عدة بيانات سياسية، تطالب وزارة الثقافة التونسية بإلغاء عرض بوجناح، على خلفية مواقفه المؤيدة للكيان الصهيوني. وفي هذا السياق، أصدر الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يمثل العمود الفقري للمجتمع المدني التونسي بيانًا، بخصوص مشاركة الفنان ميشال بوجناح في إحياء سهرات مهرجان قرطاج الدولي، دعا فيه إلى "إلغاء عرض الكوميدي ميشال بوجناح على مسرح قرطاج وفي كل المسارح، لا باعتبار ديانته اليهودية، فاليهودية مكوّن من المكوّنات الثقافية والتاريخية في تونس، وفي غيرها من البلدان العربية، ولنا من اليهود مناضلون وطنيون لا يشكّك أحد في وطنيتهم، مثل جورج عدة وغيره، إنّما لمواقفه الصهيونية ولمناصرته لكيان عنصري فاشي، ووقوفه إلى جانب السفّاح شارون، وقيادته مظاهرات داعمة له، فضلا عن تهافته الفنّي وخواء المضامين التي يقدّمها..".
في حين دافع المبشّرون عن التطبيع مع الكيان الصهيوني، عبر ناطقهم الرسمي ممثلا بمدير
مهرجان قرطاج الدولي مختار الرصاع، بالقول إن موعد عرض ميشال بوجناح قائم، وإنّ كل التذاكر نفدت. وأشار إلى أنه كان قد أعلن، في ندوة صحافية عن برمجة الدورة، بما فيها عرض الكوميدي، والأمر محسوم، ولا تراجع عن قراره. وبيّن الرصاع أن تونس تمر اليوم بأزمةٍ في مختلف المجالات، ومن الضرورة البحث عن كل الطرق والسبل للخروج من هذه الأزمة، وبالتالي أي شخص مستعد لمساعدة بلادنا في هذه المرحلة، خصوصا من ناحية السياحة، مرحب به. وقال إن ميشال بوجناح تونسي، ومواقفه من إسرائيل تلزمه وحده، مضيفا أن لكثيرين مواقف مشابهة، وسبق لهم أن دخلوا تونس أمام صمت الجميع.
وينبع موقف رافضي التطبيع من المجتمع المدني التونسي لحضور الفنان ميشال بوجناح من أنّ إفساح الفضاء الثقافي العمومي، ممثَّلاً في مهرجان قرطاج، لهذا الكوميدي ذي الأصول التونسية والمقيم في فرنسا، لا علاقة له بالفعل الثقافي، ولا بحرية الإبداع، بل هو توفير مجاني لهذا الفضاء لصالح مدافعٍ عن قتل الأطفال الفلسطينيين، كي يمرّر فيه خطابه العنصري البغيض، وليبثّ دعايته السامّة، ولتبرير الاحتلال والاستعباد وتمجيدهما..
ومن الواضح أن المجتمع المدني التونسي، في ردّه على مواقف المبشرين والمدافعين التونسيين عن التطبيع، والمؤيدة لقدوم بوجناح، يقيم تمييزًا واضحًا بين الاعتقاد الديني الخاصّ والالتزام السياسي العامّ، وبالتالي بين اليهودية ديناً والصهيونية أيدولوجيا ومشروعا سياسيا استعماريا استيطانيا توسّعيا في فلسطين. وهو التمييز الصارم الذي يفصل لدى مكونات المجتمع المدني التونسي بين المُنضوي في المشروع الصهيوني والمناهض له ضمن اليهود، بين بوجناح وماسياس وغيرهما من جهة، وبين جورج عدّة وأبراهام سرفاتي وغيرهما من جهة ثانية، فالجنسية التونسية لا تُشرّعُ لحاملها، مهما كان معتقده الديني، أن يكون خائنًا أو قاتلاً أو مدافعًا عن القتلة، وأن يُجازى على جرائمه عملة صعبة من المال العام . كما أنّها لا تُبرّرُ له أن يُمارس أو يُدافع عن إرهاب جماعة أو إرهاب دولة، وأن يُمارس أو يُدافع عن سياساتٍ عنصريةٍ، وأن يُناصر أو يُدافع عن احتلال واضطهاد شعب واقتلاعه من أرضه.
التطبيع، كما يستدل من السياق الذي نشأ منه اللفظ – المصطلح، أو الرمز، هو سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي وحقوقي، بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني، وعلاقة حسن جوار، وتعايش مع العدو القومي الذي هو في طريقه إلى أن يصبح شريكاً وحليفاً وصديقاً، إن لم يكن قد أصبح كذلك في نظر بعض الحكام العرب في ضوء الأزمة الخليجية الراهنة، من دون أن يتخلى عن تهويد القدس وكل فلسطين، واستمرار تفوقه العسكري الاستراتيجي والنوعي على جميع الدول العربية منفردة، وعلى أي تحالفٍ عربيٍّ محتمل، من دون أن يتخلى عن امتيازاته، أو يغير في وظيفته وبنيته.
وتنبع الفكرة الإيديولوجية الأعمق للمبشرين والمدافعين عن التطبيع مع الكيان الصهيوني من
النخب الفكرية والثقافية والسياسية التونسية والعربية، من محاولة هؤلاء طمس الهوية العربية - الإسلامية للمنطقة العربية، معتبرين إياها مساحة جغرافية تعاني من محنة الهوية، وبلا هويةٍ حضارية. ولذلك، يندفعون بقوة انطلاقاً من استغلالهم أزمة الهوية، أوعقدة الهوية في العالم العربي التي يعانيها العرب الآن، لتسويغ وجود الكيان الصهيوني على أرض العرب، وقبول التطبيع معه، باعتباره دولة موجودة في الإقليم الشرق أوسطي نفسه، فالمدقق في هذا المفهوم "الشرق أوسطي" الذي يروجه المبشّرون والمدافعون عن التطبيع من الذين لهم مصالح تجارية واقتصادية، ونفع ذاتي، ومصالح ضيقة، وقصر نظر سياسي، ومن المتذمرين من فساد أحوال مجتمعاتهم، ومن المنظرين "للتغريب" الثقافي، ولمفهوم "الكونية" يرى فيه سياسةً تهدف إلى تحقيق السلام بين الكيان الصهيوني والدول العربية، بما يعني ذلك إنهاء حالة الحرب والعداء، والاعتراف بشرعية الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، وإقامة علاقات سياسية واقتصادية وتجارية طبيعية معه، وإنهاء حالة المقاطعة الاقتصادية العربية له.
وتعلق النخب الفكرية والثقافية التونسية المدافعة عن الأيديولوجيا النيوليبرالية الأميركية، وبالتالي عن التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومعها الطبقة الرأسمالية الطفيلية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية، والتي تجد في حزبي الائتلاف الحاكم (نداء تونس والنهضة) خير ممثل سياسي لها، آمالاً كبيرة على الوفود السياحية الصهيونية لزيارة المناطق السياحية التونسية، وعلى جلب الصهاينة الأثرياء من أصل تونسي أموالهم الوفيرة واستثمارها في بلدهم الأم، والاستفادة من خبرتهم التجارية، وكذلك توفير إمكاناتٍ لتدفق الاستثمارات الأوروبية و"الإسرائيلية" إلى تونس، لا سيما بعد أن أصبح الاتحاد الأوروبي أقسى بكثير، خلال السنوات الأخيرة، على صعيد الشروط التي يضعها للتعاون الاقتصادي، مشددا على الربط بين شروطه، وهي التطبيع مع الكيان الصهيوني، وشروط صندوق النقد الدولي، فضلاً عن الضغوط التي مارسها النواب الأميركيون على رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، الذي زار واشنطن أخيرا، حين دعوا إلى رفض تونس جميع القرارات التي تدين إسرائيل في المنظمات الدولية.
E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة