الطبقة الوسطى ومستقبل السياسة العربية

الطبقة الوسطى ومستقبل السياسة العربية

17 يوليو 2017
+ الخط -
اختتمت في تونس الندوة الدولية التي نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن الطبقة الوسطى في العالم العربي. ويعكس تنظيم الندوة وعياً متنامياً داخل بعض الأوساط الفكرية والأكاديمية العربية بالأهمية المتزايدة لهذه الطبقة في معادلات التغيير الاجتماعي والسياسي في المنطقة، لا سيما بعد حالة الانسداد المريع التي وصلت إليها معظم الثورات العربية، والإخفاق في اجتراح صيغ ناجعة ومتوافق عليها للانتقال الديمقراطي، تمهد الطريق إلى حل المعضلات المتراكمة في مجتمعاتنا، وفي مقدمتها الديمقراطية والتنمية. 

انصبت بعض محاور الندوة على الاستعمالات النظرية لمفهوم الطبقة الوسطى وحدوده، وعلاقته بتباين مكوّناتها السوسيومهنية، ما يجعل الاستعانة بالمقتربات الكلاسيكية، حسب بعض الأوراق المقدمة، محفوفا بمزالق نظرية ومنهجية، خصوصا في ضوء ظروف نشأتها وأنماط تشكلها التي تختلف عن الطبقة الوسطى في الغرب.
انصبت محاور أخرى على تناول المؤشرات المعتمدة لتحديد مختلف شرائح وفئات هذه الطبقة وتصنيفها، وهي مؤشرات تظل قاصرةً عن صياغة إطار نظري متماسك لتوصيفها. وخُصصت بعض أوراق الندوة للتحولات الاجتماعية والسياسية التي واكبت هذه الطبقة في بعض البلدان العربية، من خلال سلوكها الانتخابي، ولا سيما في البلدان التي عرفت فوز الإسلاميين في الاستحقاقات الانتخابية التي أعقبت ثورات الربيع العربي. كما حظيت التحولات الاقتصادية باهتمام مداخلاتٍ ركّزت على تراجع القدرة الشرائية لهذه الطبقة، وتدهور مستوى معيشتها، وتطور أنماط سلوكها الاستهلاكي، وتأثير ذلك على فاعليتها الاجتماعية والسياسية، هذا من دون أن نغفل قضايا الانتقال الديمقراطي وتعقيداته السياسية والثقافية.
على الرغم من تباين المداخل المقترحة لدراسة الطبقة الوسطى العربية، إلا أن الأوراق والبحوث المقدمة في الندوة تقاطعت، تقريبا، في تشخيص بعض إشكالاتها السوسيولوجية، من خلال الـتأكيد على طابعها الهلامي والانسيابي، وعدم تجانس مكوناتها، وتباين مرجعياتها الفكرية والأيديولوجية، وتوتراتها القيمية، من دون أن ننسى، بطبيعة الحال، ارتباطها بالسلطة الذي يحدّ من فاعليتها السياسية.
تطرح هذه الطبقة مشكلةً كبرى في الاجتماع السياسي العربي المعاصر، فعلى الرغم من عدم تجانس مكوناتها وتباين اختياراتها الفكرية والسياسية (ليبرالية، علمانية، يسارية، إسلامية معتدلة، متشدّدة...)، وهو ما قد يبدو في صالح السلطوية العربية، إلا أنها تمثل مأزقاً بنيوياً لهذه السلطوية، فلا هذه الأخيرة قادرة على الإجهاز عليها، بسبب حاجتها لدعمها السياسي والاجتماعي، ومخاوفها من انجرارها إلى خيارات راديكاليةٍ تفضي بها، في النهاية، إلى التحالف مع الفئات الفقيرة والهشّة، ولا هي، في الوقت نفسه، قادرة على الاستجابة لطموحاتها السياسية المتزايدة التي قد تؤدي، مع الوقت، إلى المطالبة، من موقع قوة، بإعادة صياغة المشهد السياسي، وفرض ميزان قوى جديد.
في السياق نفسه، لم تغفل أوراق وبحوث كثيرة في الندوة العلاقة العضوية بين التعليم والطبقة الوسطى، فبقدر ما يكون التعليم على قدرٍ من النجاعة والجودة والفاعلية، بقدر ما يفرز المجتمع، في سيروراته المختلفة، طبقةً وسطى متعلمة وحيوية، وقادرة على فرض خيارات تحديثية واضحة على السلطة والنخب. ولعل الأزمة التي تتخبط فيها نظم تربوية عربية كثيرة، تجعل المراهنة على هذه الطبقة لقيادة عملية التحديث في المجتمعات العربية، في مقبل الأيام، محط تساؤلات كبيرة.
من ناحية أخرى، تطرح الطبقة الوسطى العربية مشكلة أخرى، تتمثل في ارتباط بعض فئاتها وشرائحها بالاقتصاد السياسي العالمي، ودوائر الرأسمال العابر للقارات، وهي الفئات والشرائح التي باتت تسمى الطبقة الوسطى المعولمة، دلالةً على ارتباطها العضوي بحركة العولمة والليبرالية الجديدة، وهو ما حاولت ملامسته بعض المداخلات، في تركيزها على ملامح هذه الفئة الجديدة، ونزوعها الاستهلاكي المتزايد، وانفصامها عن واقعها العربي.
مؤكّد أن الاهتمام بالطبقة الوسطى يشغل صناع القرار في بلداننا، خصوصاً في ما له صلة بتحالفاتها المستقبلية، وتأثير ذلك على قضايا الانتقال الديمقراطي ومستقبل السياسة العربية، هذا من دون إغفال أن جزءاً من هذا الانشغال يعود إلى ما تعرفه أوضاع هذه الطبقة من تراجعٍ في مستوى معيشتها، وتزايد نسبة البطالة بين صفوفها وتردّي الخدمات الاجتماعية، ما يجعلها عصب الصراع الاجتماعي. وهي في هذا قد تشترك مع نظيراتها في كثير من مجتمعات العالم، في ضوء إيغال قوى العولمة والرأسمالية المتوحشة في التحكّم في مختلف مصادر القرار السياسي، بغاية جعله في خدمة مخططاتها الاقتصادية والاجتماعية، الرامية إلى الهيمنة على مقدرات الشعوب وخيراتها.