عن خطايا تبرير ظواهر العنف السياسي والديني

عن خطايا تبرير ظواهر العنف السياسي والديني

15 يوليو 2017
+ الخط -
مثلما لا يمكن تبرير العنف والتطرّف والقمع، ومصادرة الفكر، ومنع الحرية الفردية السياسية والاجتماعية، كذلك لا يمكن تبرير الإرهاب أو تفهم دوافعه، أو/و دوافع القائمين به، مهما تكن: دينية سياسية أو اجتماعية، فردية أو جماعية؛ ذلك أن تلك الممارسات والمسلكيات، وإن تكن ليست وليدة اللحظة، فهي وليدة "عقل" سلطوي تآمري، فوضوي، إرهابي، لا نتاج عمل فكري، وإن يكن أيديولوجيا يغرق في الذرائعية والبراغماتية وكره الذات والآخر على حد سواء، وإلا فكيف يمكن تفهم دوافع الانتحاري، وهو يُقدم على الموت، بغض النظر عن كيفية الطريقة والأسلوب؟ إن لم يكن دافعه الدخول إلى أوهام العدمية المختلطة بوهم "الخلاصية" أو أوهامها، وتماهياتها الكثيرة، وهي عدميةٌ من نوعٍ آخر، لا توفر في سياقاتها المختلفة ذاتها من "التخلص" من وجودٍ متحقق، لم يحقق لتلك الذات، أو إلى ما تسعى إليه من أهداف؛ أي معنىً من المعاني والدلالات؛ غير خدمة الذات العدمية، وهي تغرق في بحار الغيب والغيبوبة..
أما الذات الفردية أو الجماعية والمجتمعية، فهي مما لا تجري مقاربتها في الخطابات العنفية، وما يوازيها من مسلكياتٍ قمعية وإرهابية، منظمة أو فوضوية، وما ينطبق على الذات هنا ينطبق على الموضوع ومجموع القضايا التي تهم الإنسان، كونه قضية القضايا، لا مجرّد خرقةٍ من خرق "المقدس" الديني ومزقه.
في ضوء الخبرة المتحصلة حتى اليوم، جرّاء المسلكيات الإرهابية، ونشر وإفشاء خطابات الكراهية والحضّ على العنف، ينبغي تأكيد مسؤولية "المجتمع الديني" في محاربة ظاهرة التكفير والغلو والتشدد الديني والتصدّي لها، إلى جانب كل قوى المجتمعات المدنية والحكومات، قبل أن تتفشّى تلك الخطابات العدمية في كامل أرجاء الدولة ومجتمعاتها المدنية، لا سيما ونحن نرى تطوراتٍ طارئة سلبية عديدة واتساعها أفقيا، خصوصا مع قيام تنظيم داعش، وما ماثله وتشابه معه من تنظيماتٍ في تخطي كل الحدود والمحرمات، في تحويل متدينين كثيرين بسطاء إلى مادة حرب إجرامية ضد كل الناس في كل المجتمعات والدول عالميا.
هنا ينبغي وضع الدينيين جميعا أمام مهمة تحمّل مسؤولية نشر الكراهية والإرهاب، لدى 
جعلهما متماثلين ومتطابقين مع صورة الفرد المتدين وصفاته، وما يتخطاه إلى إيجاد صورة نمطية معيارية للمجتمع المتديّن؛ وهنا تحديدا نقع في ظلم كبير للمتدينين جميعا، على الرغم من أنهم مختلفون، وليسوا متماثلين كلهم في رؤاهم ونظراتهم في أفهامهم للدين، بكلياته وجزئياته، أو لجهة توظيفه في خدمة أغراضٍ سياسية أو تجارية، أو استثماره في خدمة سياسيين يقومون على استغلال مراكزهم ومناصبهم من أجل مصالحهم ومصالح آخرين، لا علاقة لهم بالدين، لا على الصعيد الإقليمي ولا على الصعيد الدولي.
ولئن لم تكن الظاهرة الدينية واحدةً في كل العصور، بل هي تقلبت في مراحل عديدة من التسامح إلى التشدّد والغلو والتطرّف، وأخيرا سلوك معارج الإرهاب ومدارجه، كما بتنا نعايشه اليوم، فقد دشّنت الثورة الإيرانية ظاهرة بدء استغلال الظاهرة الدينية لأغراضٍ سياسية وأيديولوجية متمذهبة، انطلقت من استحواذها على فهمٍ أحاديٍّ للدين، بعد أن صادرته لمصالح قوموية، حين بدأت تتجه نحو محاولة "تصدير الثورة"، وتنشر ثقافة كراهيةٍ، بدأتها بفتوى الخميني ضد سلمان رشدي، وقبلها بمطاردة أفكار الحداثة والتنوير ضد المثقفين والأحزاب والسياسيين، حتى المقرّبين من النظام، ووسعت من دائرة المطاردة لكل عقل نير وفكر حر.
وها هي الثورة تنقلب إلى الضد، لتجسّد دورها ثورة مضادة، لم ولن تستطيع عبر الدين أو الفكر الديني عموما، أن تحافظ على منطلقات التغيير ومتطلباته، إلا في اتجاه الماضي، وليس نحو المستقبل، فيما أهدافها العليا تتمركز في الاستحواذ على السلطة الداخلية، وتوسيع دوائر النفوذ الإقليمي، وتحقيق أهداف ماضويةٍ عبرها ليس غير.
وهكذا فعل ويفعل دواعش "القاعدة" وجنود الخلافة ومن يتمثل بهم من أمراء الحارات والزواريب الإسلاموية وولاتها، وهم يشكلون ويتشكلون أدوات عنفٍ وإرهابٍ على مستوى عالمي، جرّاء حاجتهم لمتلازمةٍ سلطويةٍ، استقوها ويستقونها من خطابٍ تدينيٍّ فقير، وتفسيرات وتأويلات أكثر تشوها وتطرفا وتكفيرية من التي سادت يوما، لنقف اليوم على أعتاب تديّنٍ لا يجافي الدين فقط، بل وتدينيين يجافون الإنسان والإنسانية بالمطلق.
أمثال هؤلاء وأولئك المتماثلين معهم من أديان أخرى، كما من طوائف ومذاهب أخرى، ممن آثروا الارتماء في أحضان التعصّب وكره الآخر وترذيله، وصولا إلى قتله، لا يعتقدون بالتعدّد والتنوع، ولا بالمواطنة وقيم المشتركات الإنسانية، حتى إنهم لا يريدون بالمطلق، لذواتهم 
المتشظية والمدمرة في داخلها، أن ينافسها أي أحدٍ على سلطتها "المقدسة"، وتلك صفاتٌ لم تنجح تلك المؤسسات المنظمة لشؤون الدين، في منع إرسائها، وتحمّل مسؤولية جعلها تقليدا معترفا به، بل إن الدولة، باعتبارها ناظما لإدارة شؤون الناس/ المواطنين تتحمل المسؤولية الكبرى عن "قوننة" هذا السلوك المتطرّف من عدمه. وبالتالي، محاولة وضع حد أو التخفيف من غلواء الانسياق خلف تشوهات تبنّي بعض المدارس الفقهية، وتعليمها النشء عندنا، تعليما قاد فرقاً وتياراتٍ عديدة لتبني طرائق وأشكال عديدة من عنف مدنس، بزّ في مراحل معينة عنف الاستبداد السلطوي، بما أضحى يقودهم إلى استسهال ممارسة الإرهاب الإجرامي، وبالتالي الخروج من الدين وعليه، وحتى على القيم البشرية.
لكن أكثر ما يؤلم الإنسان/ المواطن في وطنه أن تجعل السلطة الحاكمة، ومعها قسم من "المواطنين"، أوصياء على القسم الآخر من "المواطنين"، يجري التحّكم بهم وبسكناتهم وحركاتهم، والتدخل في شأنهم الحياتي، وحتى الوجودي؛ وتلك طامةٌ كبرى تستهولها الدولة الدستورية، وتُقبل عليها سلطة الدولة الاستبدادية، وبعض السلطات الدينية، وتشرع لها كل الأبواب والشرائع والقوانين.
عشنا وتعايشنا مع أفكار ظلامية سنوات عديدة من قبل، من دون أن نشهد ما نراه اليوم من مذابح، ومن أمثال هذه المقاتل والمجازر الإرهابية التي تتصاعد يوما بعد يوم، لتقودنا نحو مواض مضت ولن تعود، ولن تفتح أبواب المستقبل أمامنا بما ينبغي أن يصون وحداتنا الوطنية و/أو القومية وثقافتنا التنويرية ورؤانا الحضارية التي تتساوق والحداثة المطلوبة. وما تنشدها شعوبنا ومجتمعاتنا ودولنا، من دون أن تتعثر بعوائق التخلف مرة جديدة، تجعلنا نطالب بتجديد ما لا يمكن أن يتجدّد، من قبيل خطابٍ أو خطابات، تحتاج اليوم إلى عقلانيةٍ راشدةٍ وأفكار نيرةٍ وسلطاتٍ أكثر حداثة من حداثات الماضي غير السعيد، والحاضر الذي تنتهك فيه سلطات الأمر الواقع، كما والحالمون بأن تكون السلطة المطلقة من نصيبهم؛ حياتنا وحياة غيرنا من البشر، وكأننا خلقنا كي نكون عبيدهم، ومتاعا لهم ومن أملاكهم الخاصة.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.