حياة مصباح

حياة مصباح

14 يوليو 2017
+ الخط -
عندما كان مصباح القراءة الصغير الموضوع على طاولة القراءة جديداً كان يفكر دوماً في سبب أنه يرى من خلال نفسه دائماً وغرابة هذا الأمر. كانت الساعات التي يُترك فيها موصولاً بالكهرباء تجعله يفكر كثيراً في هذه الأشياء: لماذا أنا أنا؟ لماذا لست باقي الأشياء؟ وهل تفكر باقي الأشياء مثلي؟ هل يشعرون بأنفسهم أم أنهم أشياء أخرى وأنا الوحيد الذي يرى هذه الصور ولا يرى نفسه لكنه يشعر بها؟.
ثم يفكر في شكله الذي يستطيع رؤيته من خلال الأحلام: لماذا أرى نفسي من الخارج في الحلم وأشعر بها في الوقت ذاته؟ إذا كنت أرى نفسي من الخارج، لماذا لا أدرك أنه حلم إلا حين أستيقظ وأفقد هذه الرؤية، وأعود لأرى من خلال ذاتي؟
وفي الأوقات الأخرى، أوقات عمله، كان يبذل جهداً لينير الصفحات التي يقرؤها الشخص الجالس إلى الطاولة، من دون أن يركز في ماهيتها. كانت هناك رسوم وكلمات مختلفة، هناك صفحاتٌ كُتبت أسطرها بشكل عمودي، حتى نهاية السطر، وصفحات أخرى الكتابة عليها تبدو نحيلة إذ تقع ثلاث كلمات تقريباً على كل سطر.
حين يفقد تركيزه كان يفتتح حديثاً مع أحد الأغراض الموضوعة مؤقتاً على الطاولة، مثل علبة الدواء أو كوب القهوة. كانت علبة الدواء المسكن تتحدّث بطريقة مربكة، وغالباً ما كانت تشكو من أنّ لها سمعة سيئة، والجميع ينصح بعدم أخذها لكنها لا تفعل شيئاً سوى تهدئة آلام الساق والرأس، وتقول بحدة: أنا أجعل حياتهم أسهل، أتعلم أنّ الجميع يستعملني؟ أتعلم أنّ كثيرين يدرسون سنوات ليستطيعوا وصفي؟ لكن لا أحصل سوى على الكلام السيء إنهم حمقى فعلا.
أما كوب القهوة، فكان له صوتان، واحد من الداخل والآخر من الخارج، كان الصوت الذي يأتي من الداخل هو صوت القهوة، كان يخفت بسرعة ويعرف المصباح أنه برد الآن، أما الصوت الخارجي فهو صوت الكوب. كان الكوب يتحدث فقط حين تختفي القهوة ويبدو صوته بارداً ويائساً.
كان المصباح يفكر مجدّداً في كونه نفسه وكون الآخرين صورا، وكالعادة كان التفكير يتوقف، بعد أن يصل إلى مرحلة غامضة ومخيفة. لذا يبدأ بالتفكير بشيء آخر.
في إحدى المرّات، قرّر المصباح أن يكون له اسم مثل أولئك البشر الذين ينادون بعضهم بالأسماء. فاختار بسرعة اسم (جينو). لا بدّ أنه قرأ هذا الاسم في مكان ما لكنه لا يذكر.
مرّت أوقات طويلة متشابهة، وفي يوم ما كان يعمل كالمعتاد، لكنه قرّر، هذه المرة، أن يركز على ما يضيئه، ويوماً بعد يوم كان يكتشف أشياء جديدة ليفكر بها ومنها كانت فكرة جديدة غريبة، وهي فكرة وجود إله خالق للكون، يرى كل شيء ويسمع طلباتنا. مذ آمن بهذه الفكرة الساحرة، لم يعد يفكر مثل السابق، بل تحوّلت الأوقات التي يبقى فيها مشتعلاً، لأن من يجلس إلى الطاولة نسي إطفاءه تنقضي في الأحاديث مع هذا الخالق الذي لم يكن مثل كوب القهوة أو علبة الدواء أو الكتب، فهو لم يكن يتحدث ولم يكن يملك شكلاً، قرّر أنّ الحديث مع الخالق سيكون في قلبه فقط لئلا تسمع أمنياته الأشياء الأخرى.
كان يطلب من الخالق أن يتحوّل إلى كتابٍ ليرى كيف يفكر الكتاب داخل نفسه، وأحياناً أخرى يتمنى أن يكون كوب القهوة. ولكن الأمنية التي كان يفكر بها بسحر هي أن يكون مثل الشخص الجالس إلى الطاولة، فيتحرّك مثله ويستعمل المصباح والأشياء التي يقول أنها ملكه. بقيت الأمنية تشغل جينو المصباح. وفي يومٍ ما، تخيّل أنّها بدأت تتحقّق، وفي الوقت نفسه، كان جينو يبدو في أعين الآخرين مجنوناً، فقد كانت إضاءته تخفت كثيراً وينطفئ تماماً من تلقاء ذاته.
وفي يوم ما، بينما كان يشهد خروج آخر حبة من الدواء وفقدان العلبة صوتها إلى الأبد شعر بأنه ينمو، فبدأ يشتعل وينطفئ بسرعة. وفي أثناء ذلك، سُمع صوت يقول "هذا المصباح انتهى.. أظنّني بحاجة إلى واحد جديد"، ثم فُصل جينو من الكهرباء ورمي في مكان ما.
لم يدرك جينو: هل أجاب الخالق أمنيته، أم أن الخالق ملّ من أمنياته فقرر إسكاته إلى الأبد؟
BA8F6990-BDD9-4E66-AE82-403A444BB5D8
BA8F6990-BDD9-4E66-AE82-403A444BB5D8
شهد العاني (تونس)
شهد العاني (تونس)