حدث في "كوفي شوب"

حدث في "كوفي شوب"

13 يوليو 2017

(فرانس برس)

+ الخط -
1
كبقية خلق الله الذين يحتاجون أحيانا للجلوس في مكان عام، للالتقاء ببعضهم بعضا، للبحث بمسائل مشتركة مع فنجان قهوة، دخلت وصديقي مقهى عاما، مما يسمى هذه الأيام "كوفي شوب". طلبنا فنجان القهوة، فجاءنا برفقة كأس ماء مختومة، و.. صحنٍ من المكسرات. لم أستغرب كثيرا، فالهدف كان كما يبدو رفع قيمة الفاتورة. لا بأس. جلسنا بما يكفي لشرب فنجان القهوة وقضم المكسرات، كان المكان شبه معتم، وشبه خالٍ أيضا، سألت صديقي عن السر في الأمر، فقال: انتظر قليلا وستعرف، استعجلته لمغادرة المكان، بعد أن أنجزنا ما كنا نناقشه، فاستبطأني قليلا، ورضخت وأنا كاره، لأنني لا أحب هذه الأماكن التي لا يدخلها النور بكثافة، ولا أشعر فيها بالأمان.

بعد قليل، اقتربت من طاولتنا فتاتان في مقتبل العمر، استأذنتا بالجلوس، وقبل أن نأذن لهما جلستا، وجاء في إثرهما النادل، يحمل كأسين من الماء مختومتين وضعهما أمامهما، وسألنا ماذا سنضيّفهما.
قال صديقي: لا شيء، نحن في جلسة عمل، ولا نريد أن يزعجنا أحد، ثم استدار قائلا لهما، وقد عقدت الدهشة لساني: بماذا يمكن أن نخدمكما؟ قالت إحداهن: لا شيء وقامتا.
قلت لصديقي: ما الذي يجري هنا؟
ضحك طويلا، وقال لي: أنت لست في البلد؟ هذا واحدٌ من عشرات المحلات التي تتعاطى الـ (؟؟؟) وتفوه بكلمةٍ تعافها الألسن. صحيح أنها تسمى مقهى، لكنها في الحقيقة شيء آخر، أحسستُ بالدم يغلي في عروقي. قلت له: إن كان ذلك كذلك، فلم أتيت بي إلى هنا؟
قال: انتظر، ولا تغضب، أردت فقط أن ترى بأم عينيك ماذا حلّ بعمّان. لو أنني حدّثتك بما يجري لرفضت الدخول، ولكنني أردت أن تعرف، وتعاين الأمر بأم عينيك، حتى تكتب ما تشاهد، وكي تحدّث قرّاءك بما رأيت.
فيما كنا نغادر المكان، بعد أن دفع صديقي عشرة دنانير لقاء تلك الجلسة، قال لي إنه شاهد، في مرة سابقة، إحدى تلكم الفتيات تدخل إلى مطبخ المقهى، تحمل دفاتر الطلبة وكتبهم. وبعد قليل، رأى امرأة ترتدي عباءة سوداء (!) تخرج من المكان ذاته، حتى أنه حسبها امرأةً مختلفة، حتى إذا استوثق من النادل، قال له إن الفتاة هي ذاتها، فقد وضعت كتبها في الداخل، وارتدت "عدة الشغل!" للوقوف على قارعة الطريق.
قلت، وقد اختنقت بالدهشة: .. وهنا، داخل المحل، ماذا يجري؟
قال، إنه مكان لترتيب اللقاءات التي تتم "مصادفة!" بين رواد المكان، ومن يبحثن عن صيد ثمين.
سألت: من يصيد من؟ قال: الصحيح أن الصائد الحقيقي هو صاحب المحل الذي يبيع كأس الماء بخمسة دنانير، ويأخذ ما لا نعرف من "محصول" البنات الذي يوفّر لهن "ملاذا" لترتيب صفقاتٍ لممارسة أقدم مهنة في التاريخ.
خرجت من المكان وأنا في حالة ترنّح، فقد دارت الدنيا بي سبع دورات على الأقل، كان الوقت عصرا، كنت سألت النادل: متى تغلقون المكان؟
فقال: الثالثة صباحا. إذن، هذا ما يحصل في وضح النهار، فكيف هو الحال حين يرخي الليل أستاره؟
لا أريد هنا تعميم هذا الأمر على كل مكانٍ يحمل وصف "الكوفي شوب"، لكن المؤكد أن ثمة كثيرا من "الكوفي شوبات" تتعاطى أكثر من مهنةٍ، لا تحمل ترخيصا لها من دائرة ترخيص المهن.
2
عمر هذه القصة سنواتٍ مضت، استحضرتها اليوم لعدة أسباب. لعل أهمها ما حدث للطفل السوري الذي اغتصبه وحشٌ بشري، ثم حزّ رقبته، وما لبثت أجهزة الأمن الأردنية أن ألقت القبض عليه في وقتٍ قياسي، حيث اعترف باقتراف جريمته الشنعاء. ولكن، ما الذي يجمع بين الواقعتين؟
سؤال مشروع، قد لا نجد إجابة سريعة عليه. ولكن ما يشغلني هو حجم "الأزمة" الاجتماعية التي نعيشها، بالتزامن مع أزمتنا السياسية والاقتصادية، والأخلاقية. ثمّة حديثٌ كثيفٌ عما تعانيه بلادنا من أزماتٍ سياسية، وثمّة محللون وقنوات وحوارات تتحدّث على مدار الساعة عن تطورات الحدث السياسي، ولكن قلةً قليلة من الناس تنشغل بالجانب المعتم في حياتنا اليومية، أعني الجانب الاجتماعي، وهو لا يقل خطورةً ودمارا عما تشهده ساحة السياسة. هذا وقت مستقطع، كما يبدو، للتذكير بما يجري تحت سطح الحدث السياسي، وفداحة ما نعيش من انهيار، لا يقلّ، في خطورته، عن انهياراتنا على مسرح السياسة.