كل هذا الاستهلاك

كل هذا الاستهلاك

12 يوليو 2017
+ الخط -
ما زلت أتذكر النقاش الذي دار يومذاك بيننا.
كنت أهبط أحد شوارع جنيف مع اثنين من أصدقائي، وكنا نتأمل المباني الممتدة على طول الشارع، أبنية من أربعة طوابق غالباً، بمظهر بسيط، وشقق صغيرة، ولها بلكون صغير له درابزون معدني بمساحات 40 وحتى 80 مترا مربعا. وقليلة البيوت التي تزيد مساحتها عن مائة متر مربع، وجميع هذه البيوت تقريبًا تخلو من الخدم، وغالبية أصحابها لا يملكون سيارات، لا دفعا رباعيا ولا حتى سيارة صغيرة، بل يستخدمون المواصلات العامة، يركبونها وهم يقرأون الكتب، أو يستخدمون الدراجات العادية إن كان الطقس يسمح بذلك، وتراهم في الطقس اللطيف يركضون ممارسين الرياضة، وغالبيتهم يعزفون على آلةٍ موسيقية، ويرتدون ثيابًا بسيطة.
هل من يقطنون في هذه الشقق هم من الفقراء؟ أبداً فقاطنوها سويسريون في معظمهم، يعملون في مؤسساتٍ سويسرية صغيرة أو كبيرة بدخل جيد، وبعضهم يشغل مراكز وظيفية متوسطة أو متقدمة، في مؤسسات وبنوك كبيرة، بما لها من أدوار عالمية.
دفعتني هذه الصورة لمقارنة هذه البيوت مع بيوت دبي، حيث كنت أقيم يومذاك في شقة مساحتها 140 مترا مربعا. ودبي من مدن الخليج العربي، وتزيد مساحة معظم بيوتها عن مائة متر مربع. وهذه الشقق "الصغيرة" بمقاييس دبي يقطنها الوافدون للعمل، وكان لدي سيارة، وتأتي شغالة مرتين في الأسبوع لتنظيف بيتي. وكان لدى بعض جيراني خادمات في بيوتهم، وأكثر من سيارة في البيت الواحد. أما المواطنون فلا يقيمون في شقق في مبان، وإنما في فلل يبلغ معظمها بضع مئات الأمتار المربعة، وقد تصل إلى آلاف من الأمتار لدى كبار
الأغنياء، ولدى كل عائلة عدة سيارات دفع رباعي بعدد أفراد العائلة الذين لديهم رخص قيادة على الأقل، وعدد من الخدم والسائقين الآسيويين غالباً. ويتبع هذا النهج الباذخ نمط حياة باذخ في مناحيه كافة، في البيوت، في المكاتب، في الدوائر، في الاحتفالات، في استهلاك الطاقة، فالبذخ ونزعة الاستهلاك هي السمة التي تطبع حتى الوافدين للعمل في دبي، عدا العمال الذين يعملون بأجور متدنية، ويقيمون في كامبات الشركات في ظروف أشبه بظروف العبيد.
هل يفتقر سكان جنيف، وهي واحدة من مدن أوروبية غنية كثيرة، القدرة على الإنفاق؟ لا ونعم؛ لا لأن سويسرا بلد غني وغني جدًا وأغنى من دبي بكثير، ولا؛ لأن وسطي الأجور لا يسمح للمواطن السويسري أن يبذخ في حياته، والأهم من توفر الإمكانية على البذخ أنها ثقافة لديهم. وعلى الرغم من أن مثال الملياردير السويدي، إنغفار كامبراد، مالك شركة "إيكيا" للأثاث الشهيرة عالميا، مبالغ فيه، لكنه المثال الذي يؤكد القاعدة، قاعدة مجتمع مقتصد غير مبذّر، فالملياردير كامبراد يشتري ملابس مستعملة، ويستخدم المواصلات العامة من أجل ترشيد النفقات، على الرغم من ثروته الهائلة (65 مليار دولار).
ثقافة أوروبية تراها في البقالات، حيث يشتري الأوروبيون باقتصاد في حدود ما يستهلكونه، من دون أي فائض، بينما تمتلئ سلال مشترياتنا بكميات كبيرة تزدحم بها خزائننا وثلاجاتنا، ونرمي كثيرا منها في برميل الفضلات. وثقافة تراها في المطاعم، حيث يطلب كل منهم طبقًا محدّدًا يأكله، بينما تمتلئ موائدنا بأصنافٍ كثيرة، نترك نصفها للقمامة. وينعكس في استعمالهم المواصلات العامة والدراجات العادية في مقابل استعمالنا المفرط السيارات الكبيرة. ثقافة تراها في إنفاقهم على حضور حفلات الموسيقى والمسرح والسينما، بينما تتمحور ثقافتنا على الولائم التي يهدر فيها طعام كثير. ثقافة تراها في سياحتهم وترحالهم الى مناطق طبيعية أو مدن أثرية، في مقابل سياحتنا التي تتجه نحو مدنهم من أجل التبضّع. ثقافة تراها في صناعاتهم سلعا فاخرة من ساعات وحلي وجلديات وأثاث ومقتنيات منزلية وماكياج وسواها، يتم تصديرها إلى بلداننا، وخصوصا إلى دول الخليج على نحو خاص، بسبب القدرة الشرائية المرتفعة ونزعة الاستهلاك والتفاخر المرتفعة.
ولكن لماذا هذه الفروق في الثقافة؟ كوّن الأوروبيون ثروتهم خلال تطور بطيء استغرق قرونًا، كافحوا خلالها بقوة، وعندما امتلكوا القوة، غزوا العالم وحوّلوا ثرواته إليهم، لكن هذه الوفرة لم تنسهم التعب الذي بذلته أجيالهم، والتكاليف التي دفعوها؛ والأهم أنهم يدركون جيدًا، بعقلهم العملي والواقعي، أن التبذير إنما يهدّد مستوى حياتهم الحالي.
في المقابل، هبطت ثروة النفط على بلدان الخليج فجأة، وتكدّست الثروة عندهم خلال بضعة عقود، وكان الأوروبيون من اكتشف النفط وأنتجوه. ومعروفٌ أن النفط سلعة ريعية بامتياز، أي أن الفرق بين تكاليف إنتاجها وسعرها في السوق كبير وكبير جداً، خصوصا وأن تكاليف إنتاج النفط في دول الخليج منخفضة، بسبب وجوده على أعماق ليست كبيرة، ولكون الأرض صحراء ممتدة يسهل العمل فيها، فيوم كان البرميل بمائة دولار، كانت تكاليف إنتاجه تتراوح بين 5 و 15 دولارا حسب الحقل. وترافق هذا الفائض مع وجود عدد قليل من السكان، فاستقدموا قوة عملٍ من شتى أصقاع الأرض ليقوموا بمعظم الأعمال، ما جعل حاجة المواطن للعمل المضني شبه معدومة، بينما أمّنت الحكومات فرص عمل لمواطنيها بأجورٍ مجزية، وتم تصميم السياسات الاقتصادية واستقدام العمالة بطريقة تخلق أرباحًا ريعية للمواطنين، أي بدون جهد كبير، وبدون أية مخاطر. ومن جهة ثالثة، تم طرح شركات خدمات وصناديق استثمار عديدة في الأسواق المالية، وتم حصر شراء الإصدار الأولي بالمواطنين الخليجيين، وهي أسهمٌ سترتفع أسعارها في السوق عدة أضعاف، وغيرها من سياسات، بل إن طبيعة التنظيم الاجتماعي والعلاقات القبلية تتيح الفرص للمعوزين منهم، وهم قلائل، لأن يحصل على مساعدةٍ بأكثر من طريقة.
إضافة إلى ذلك، قدّمت الدولة لمواطنيها خدمات الطبابة والتعليم مجاناً، وقدمت الماء والكهرباء 
بأسعار رمزية، وأعفتهم من أي ضرائب. أي حصل المواطن على دخل كبير أو كبير جدًا من دون جهد يذكر، بل وتكوّن منهم رجال أعمال صغار وكبار من دون مخاطر تذكر. أي لم يكدّوا ولم يكدحوا كفاية ليحصلوا على المال، وكان الربح مضمونًا، لذا لا يقدرون المال حق قدره. وقد أصابت لوثة الاستهلاك جزءا كبير من قوة العمل الوافدة إلى الخليج، ونقلوها إلى بلدانهم، حيث استثمر جلها في بناء بيوت كبيرة، بدلأً من استثمارها في الإنتاج.
لكل هذه الأسباب، وبسبب حرمان تاريخي في منطقة صحراوية كان من الصعوبة على الأجداد أن يؤمّنوا الحد الأدنى لبقائهم على قيد الحياة، فقد اندفع الأحفاد في إنفاقٍ ترفيٍّ من دون حساب للمستقبل بأن هذا الترف طارئ، ويقوم على ثروة ناضبة، إن لم يكن خلال عقدين مقبلين، فسيكون خلال عقود ثلاثة ولن يبلغ الأربعة، وهذا زمن قصير.
تعي قيادات دول الخليج وكادرات إداراته هذه المشكلة، ويدركون أن المتاح اليوم بسهولة ويسر لن يكون متاحًا في المستقبل القريب، وأن دولهم تحتاج اليوم تنمية مستدامة، بدلاً من تنمية قائمة على ثروة ناضبة، ويدركون أن لديهم الأموال الكافية اليوم لاستعمالها لإيجاد حل للمستقبل، والحل يكون عبر التنويع الاقتصادي وإيجاد قطاعاتٍ اقتصاديةٍ أخرى، تنتج دخلًا مستدامًا، وهذا أحد التحديات الصعبة.
والتحدّي الأصعب مواجهة ثقافة الاستهلاك وثقافة العمل السائدة في دول الخليج، فالتنويع الاقتصادي يتعارض مع نزعة الاستهلاك، ويتعارض مع الركون إلى العمل السهل بأجر مرتفع مضمون، وتتطلب مواجهة الثقافة سياساتٍ جديدة موجعة، لأنها تتطلب من المواطن الخليجي تغيير عادات وأنماط عيش وسلوكيات اعتادها عدة عقود. وتقف قرارات صنع السياسات متردّدة بين القرار السليم ورضا المواطن. ومن هنا، وعي المواطن شرط لنجاح هذه السياسات الجديدة التي لا بد منها.
كذلك يتعارض التنويع الاقتصادي والتنمية المستدامة مع الركون المبالغ فيه إلى قوة عمل أجنبية مستوردة، تفوق بنحو تسع مرات عدد المواطنين في بعض دول الخليج، ولا مصلحة لقوة العمل الوافدة هذه بأكثر من الرواتب التي يقبضونها، ولا تعنيهم تنمية البلدان التي يعملون بها طالما أنهم سيغادرون مكان عملهم إلى بلدانهم فور انتهاء عملهم، فالتنمية المستدامة القائمة على التنويع الاقتصادي تتطلب الاعتماد على قوة عمل وطنية، تعمل بكدّ، وتقتصد في إنفاقها، وتشكل نسبة أكبر من مجمل قوة العمل في بلدان الخليج. وهذا يتطلب سياسات جديدة في مختلف النواحي، وقد بدأت خطط هذه البلدان تلحظ ذلك، لكنها ستكون معركة قاسية، لا بد من الانتصار فيها، لضمان تنمية مستدامة وضمان المستقبل.