خطر النوم على وسادة ترامب

خطر النوم على وسادة ترامب

11 يوليو 2017
+ الخط -
ما يميّز الاستراتيجي عن التكتيكي أن الأول يتمتع بجسمٍ صلب من الإجراءات والترتيبات والموارد، وليس رخواً مستنداً إلى تصريحاتٍ غير ذات مضمون، وربما هذا هو الفارق بين السلوك الأميركي المنهك بالتناقضات والفعل الإيراني المدعوم بجيوشٍ على الأرض وسياساتٍ حققت نتائج واضحة، ليس أقلها عمليات التطهير الديمغرافي في سورية والعراق، وتثبيت أنظمة تابعة لها في البلدين.
سال حبرٌ كثيرٌ في وصف (وتفسير) استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة تجاه إيران ومحاصرة نفوذها، وقطع طرق إمدادها، وقد ساهمت خطابات ترامب، وأركان إدارته، ذات النبرة الحادة ضد إيران، في رفع سقف التوقعات، ولا يلام الذين صمّموا تقديراتهم على هذا الأساس، سواء كانوا من الإستراتيجيين أو صناع القرار، ذلك أنه من الثابت في العلاقات الدولية أن الدول العظمى، إذا أعلنت تبنيها سياسات محدّدة، فإنها مضطرة لإنفاذها، وإلا فسيسهم ذلك، بدرجةٍ كبيرةٍ، في تراجع هيبتها وتضرّر مصالحها بشكل كبير.
كما أن العداء ضد إيران صدر عن إدارةٍ رفعت شعارات إعادة هيبة أميركا في العالم في سياق إعلانها إعادة ضبط الأمور في النظم الفرعية الإقليمية، وخصوصاً جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، بعد أن وصلت إلى مرحلةٍ من الفوضى، وباتت تشكل ديناميكياتٍ تتحدّى التأثير الأميركي، خصوصاً وأن تلك الديناميكيات تحمل بصمات الصين وروسيا اللتين تعلنان صراحةً حقهما في إعادة هيكلية العلاقات الدولية، ومنحهما مساحة تأثير، إن لم تكن من حصة أميركا وعلى حسابها، فلا بأس من تحولهما إلى ندٍّ لها في تقرير السياسة العالمية.
بعد ثلاثة شهور صاخبة من التهديد والوعيد الأميركي ضد إيران، لم تظهر حتى اللحظة ملامح استراتيجية عملانية حقيقية، وإنما جملة من التكتيكات المتفرقة والمتباعدة زمنياً، بالنظر إلى سخونة الأحداث وتسارعها الميداني، بل مالت واشنطن إلى إتباع خطابٍ اعتذاري، بعد كل حادثةٍ تضطر فيها للرد على اختبارات قاسم سليماني للخواصر الرخوة للإجراءات الأميركية المسماة قطع طريق التواصل بين إيران والبحر المتوسط.
والغريب أن ما يحصل على الأرض هو عكس ادعاءات إدارة ترامب، إذ بدلاً من محاصرة
النفوذ الإيراني في المنطقة، تعمل إيران على حصر الوجود الأميركي في سورية ضمن مناطق محدّدة، والأكثر غرابةً أن واشنطن أمام هذه الوقائع تتمترس خلف شعارات الحرب على "داعش" وتقسم أن لا أهداف أخرى لها. وبالتالي، هي تغمض عينيها عن الحركة الكثيفة لمليشيات إيران على مساحةٍ جغرافية الصحراء الممتدة بين سورية والعراق، وتحصر خطوطها الحمر بالاقتراب من قرية التنف ومعبرها؟.
لا يمكن الركون إلى التفسير المؤامراتي، لفهم طبيعة سياسة إدارة ترامب، والفارق الواضح بين سقف التهديد العالي والإجراء المنخفض، فثمّة حساباتٌ يدركها القادة الميدانيون، ويبنون عليها تحركاتهم اللاحقة، وتلك الحسابات قابلةٌ للتبدّل باستمرار نتيجة التغيرات التي تنشأ على الأرض، والتي قد تؤدي، في النهاية، إلى أخذ الأهداف إلى أماكن أخرى. ومن هنا، غالباً ما تعمل الأطراف المتصارعة إلى تغيير المعطيات لدفع الخصم إلى تخفيض أهدافه أو تعديلها، وهذا ما تفعله روسيا وإيران في سياق صراعيّ شديد التغير.
ويتراكب ذلك مع إدراك روسيا وإيران طبيعة العوائق التي تعرقل قدرة أميركا على الحسم، وهي كثيرة، ليس أقلها الصراع الحاصل في واشنطن بشأن مدى شرعية ترامب، وكذلك ضغط الرأي العام الأميركي على صناع القرار، لرفض أي تورّط في حروبٍ جديدةٍ، وخصوصاً في الشرق الأوسط، وقد تحول هذه العقبات إدارة ترامب مبكراً إلى بطةٍ عرجاء في السياسة الخارجية، وتشل جميع مبادراتها الخارجية.
ستكون انعكاسات هذه التحولات وتداعياتها خطيرة على الأمن القومي العربي، خصوصاً وأن
النظام الرسمي العربي ذهب إلى تسليم إدارة ترامب مفاتيح القضيتين، السورية والفلسطينية، وفوّضه القتال والتفاوض بدلاً عن العرب، وتنازل عن كل مبادرةٍ أو مجهود ذاتي له في هذا المجال، لينشغل في صراعات بينية لملء وقت الفراغ الحاصل لديه.
سيكون كثيراً على قضايا العرب انتظار أربع سنوات من العطالة واللافعالية والسلبية، مع رئيسٍ وضعته مراكز القوى في واشنطن في حالة حجرٍ غير معلن عنه، أربع سنوات كافية لتغيير الخرائط الديمغرافية في العراق وسورية إلى الأبد، وتفيض عن حاجة إسرائيل لتهويد القدس، وتقطيع جغرافية الضفة الغربية، وحينها سيكون قد فات بالفعل أوان إصلاح هذه الأعطاب.
في ظل هذا السيناريو، ثمّة ديناميكية تتحضر للإعلان عن نفسها في المنطقة، وتتمثل بحصول صراع إيراني– إسرائيلي شكلي على الأرض العربية، وعلى حساب ثرواتها، وهذا الصراع، في حال حصوله، سيخرج العرب من دائرة قضاياهم الكبرى، ويهمشّهم سياسياً، ويحولهم إلى قوةٍ لا لزوم لها في المنطقة.
ليس سلبياً تماماً استثمار أميركا عاملاً مساعداً في دعم القضايا العربية، وتحفيزها عبر دعم مصالحها في المنطقة، فهي، على الرغم من كل ما يقال، لا تزال اللاعب الدولي الأقوى. السلبي هو تحويلها إلى خيار وحيد، وتعطيل كل الخيارات الممكنة. والسلبي أن ننام على وسادة ترامب، ونكتشف، بعد فوات الأوان، أنها وسادة خالية تسبّبت بضرب الجهاز العصبي، ولم يعد ممكناً علاجه.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".