الثورات العربية والقضية الفلسطينية

الثورات العربية والقضية الفلسطينية

02 يوليو 2017
+ الخط -
كان الاستبداد يمنح التونسيين، وعديدين من أبناء الشعوب العربية، في مفارقةٍ عجيبة، متسعا من الحجج والمناسبات لمساندة القضية الفلسطينية، لأنهم كانوا على يقين بأن الاستبداد والاحتلال ينتميان للسلالة السياسية نفسها التي تتناسل من رحم القهر والظلم، فالمعارك واحدة، وإن تغيرت الجبهات. كانت المعارك الوطنية الحقيقية، لنبلها وصدقها، تجمع أحرار العالم، بقطع النظر عن حدود الأوطان المتخيلة. هناك جغرافيا ذهنية تجعل الأوطان أوسع من حدودها وساكنيها. اتسعت الأوطان، فضمت فلسطين أحرارا ساندوها، واستشهدوا من أجلها، من دون أن يكونوا من "مواطنيها". كان ذلك قبل تبدّل الأحوال، فقد أفسد علينا الإرهاب كل ذلك الوضوح، وتلك الاصطفافات العادلة والمشرّفة. تغيرت التشريعات الدولية والوطنية، وقامت جغرافيا جديدة، رسم الإرهاب حدودها ومجالاتها، وبدأت معارك مستحدثة، تحت عناوين مغايرة تماما، على غرار مكافحة الإرهاب، وبدأت تحولاتٌ دوليةٌ كبيرةٌ، تجري حاليا. كان الخاسر الأكبر فيها القضية الفلسطينية، خصوصا وقد غذّى هذا التحفظ الشرخ والانقسام الواضح بين الفصائل الفلسطينية.
تطلع الناس إلى ثورات الربيع العربي، علها تعيد إلى القضية الفلسطينية وهجها. ثم حدث خلاف ذلك، حيث تم إغفالها والتبرّم منها إلى حدٍّ وصل، في حالات عديدة، إلى التحرّش بها، ومعاداتها، حتى غدا ذلك فضيلةً يتباهى بها هؤلاء. إنه زمن الهرولة إلى التطبيع، بل إنه أفظع بكثير. ففي دول غربيةٍ كثيرة تقيم علاقات دبلوماسية واقتصادية مع الكيان الإسرائيلي ظلت مواقفها (سياسات حكومية وبرلمانات ومجتمع مدني...) مساندةً للقضية الفلسطينية، منتقدة إسرائيل في مواضع عديدة: مقاطعة أكاديمية، رفض أن تكون القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، إدانة الاستيطان.. إلخ. فما الذي يفسر هذا الانفضاض من حول القضية الفلسطينية، وهي القضية العادلة، وهل تفسّر خيبات الربيع العربي هذا الذي حدث، حتى نحمّله هذا الوزر؟
يقدّم خصوم الربيع العربي حججاً واهيةً تدينه في علاقة بالقضية الفلسطينية، على غرار أنه قدّم القضايا الوطنية/ المحلية، ودفع بها إلى واجهة الاهتمامات الوطنية والدولية، وأن للقوى 
السياسية التي استفادت من الربيع العربي، وتحديدا الإسلاميين بمختلف تلويناتهم، مواقف معادية للقضية الفلسطينية.. إلخ، أو يضيفون حجةً ثالثةً، مفادها أن الأنظمة التي تضرّرت من هذه الثورات (المحسوبة على القومية أو الممانعة) هي التي خسرت، وبالتالي فقدت القضية الفلسطينية سندا لها.
على خلاف هذه الادعاءات، الثورة المضادة، في تعبيراتها وموجاتها المختلفة، هي التي حرّضت على القضية الفلسطينية، وأجّجت هذه الكراهية التي أضرّتها، لأسباب تاريخية لا يمكن دحضها، من المفيد التذكير ببعضها:
- الموقف المصري من القضية الفلسطينية وحركة حماس تحديدا، على أثر الانقلاب، فقد جعل النظام المنقلب على الشرعية التنسيق مع "حماس" تخابرا، والتخابر مع العدو الصهيوني تنسيقا أمنيا مشتركا، فتحولت "حماس"، وبقية الفصائل الفلسطينية المقاومة، تنظيمات إرهابية، فالنظام المصري، وهو يعادي "حماس"، لم يقرّب إليه فصيلا فلسطينيا مقاوما آخر. ما يبرهن، مرة أخرى، معاداته للمقاومة عامة، والتنكيل بالمواطنين العاديين، حتى في مسائل إنسانية صرفة، ومعاناة المعابر، ومنها رفح، عيّنة على حجم هذا التدمير الممنهج لروح المقاومة.
الثورات المضادّة تعادي القضية الفلسطينية، لأن هذه القضية ستظل روحا ملهمة للشباب العربي لمقارعة الظلم، إذ ما زالت، حتى في نسخها الأكثر تراجعا وتقهقرا، نموذجا نضاليا لأبناء المنطقة، لاستكمال معارك التحرّر الوطني والمواطني.
- الدول التي ناهضت الربيع العربي، وحاصرته، وسعت إلى تخريبه باعتباره نموذجا ملهما، هي نفسها التي تقف اليوم ضد القضية الفلسطينية، وتتحرّش بزعاماتها وقياداتها حاليا، وتحاصر كل أشكال الدعم، حتى الرمزي منه. وليس مصادفةً أن تجرؤ اليوم على التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتقوم، خلاف ذلك، بتجريم المقاومة واعتبار فصائلها إرهابية.
في سياق التحولات السريعة التي تصيبنا حاليا بالدوار، من فرط سرعتها وتواترها، يتم خلط
الأوراق والمفاهيم، فبحجة مكافحة الإرهاب، يتم زجّ المقاومة والمعارضة معا تحت هذه اللافتة. ميوعة المفهوم وسيولة الدلالة، ناهيك عن فظاعة ما ارتكبته بعض تلك الجماعات، جعلت الناس، وحتى الدول، يفتقدون الشجاعة الكافية في رفض هذه التصنيفات التي أطلقت على هوى بعضهم ومزاجهم: "إخوان" مصر، "حماس" الفلسطينية، حتى تصبح تنظيمات إرهابية.
لن يكون تحرّر الشعوب العربية من الاستبداد إلا دعما للقضية الفلسطينية العادلة، أما تواصل الاستبداد وتجديد جلده تحت مسوغات عديدة (الممانعة، الحفاظ على وحدة الدولة...)، فلن يكون إلا واحدا من أشكال التطبيع، ولو المؤجلة.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.