انهيار آخر "القلاع"

انهيار آخر "القلاع"

02 يوليو 2017
+ الخط -
طوال العقود الماضية والسابقة للثورة المضادة سنة 2013، عرفت بعض مؤسسات الدولة المصرية، كالقضاء والخارجية، شيئاً من المهنية، حمتها من الإدراج ضمن قائمة المؤسسات الخاضعة بصورة كاريكاتورية لأجهزة الدولة، مهما اختلفت درجات تسلطيتها منذ جمال عبد الناصر، ومروراً بأنور السادات، ووصولاً إلى حسني مبارك. وعلى الرغم من أن مراقبين كانوا يُضيفون القوات المسلحة إلى القائمة، إلا أنه من الصعب للمراقب الموضوعي (أقله في المعايير المنطقية) أن يعتبر الجيش، الذي هو مصدر الانقلابات، وانتمى إليه مختلف الرؤساء المتعاقبين على حكم المصريين، مؤسسةً مهنيةً بالمعنى الذي ارتبط بالقضاء وبالخارجية، وحتى في المعنى العسكري الذي لن نخوض فيه تفصيلاً، ولكن "الإنجازات" المتعاقبة تدلّ عليه، وكذا الهيمنة الاقتصادية على الطريقة الباكستانية، مؤشرٌ، على نقائصه وفق المعايير الدولية، لدور الجيوش ومهامها.
كان من الممكن، من جهة، الحديث عن مؤسسة قضائية تحمل عراقةً مهنيةً، وتمارس دورها في ظل هامش نسبي من الاستقلالية، حيث كان القضاء قادراً، في تلكم الأيام، على أن يحكم بمعزلٍ عن الضغوط السياسية والأمنية في بعض من الملفات الشائكة. وأسس القضاة نادياً يُمثّل احتياجاتهم ومصالحهم، ونشط في الدفاع عن النصوص القانونية المنتهكة، أو السعي إلى رفض النصوص التي كانت السلطة السياسية أو الأجهزة الأمنية المتغوّلة تحاول فرضها، مباشرةً أو مواربة. وعلى الرغم من "العداء" المهني المحمود بين رجال القضاء والمحامين، إلا أن العادة جرت أن يمتدح المحامون أحياناً (وبتجرّد) مهنية الجهاز القضائي عموماً. وعلى الرغم من ملاحظاتٍ كانت تصدر عن المنظمات الحقوقية المعنية بحقوق الإنسان عن انتهاكاتٍ محدّدةٍ للإجراءات القضائية، إلا أنها لم تصل لتضع هذا الجهاز موضع الشك.
ومن جهة أخرى، فإن الدبلوماسية المصرية، على الرغم من أن مهمتها الأساسية، كما
الدبلوماسيات الأخرى عموماً، تمثيل سياسة الدولة والدفاع عن مصالحها، إلا أنها أيضاً تميّزت بدرجةٍ من المهنية لم تكن موجودة في خارجيات الدول العربية الأخرى، خصوصاً التي خضعت عقوداً إلى التسلطية الأمنية، والتي لعبت فيها أجهزة المخابرات والعقلية الأمنية دوراً رئيسياً في إدارة العملية الدبلوماسية، بشكلها المباشر على أقل تقدير. وحيث أنه يُلاحظ، من دون شديد عناء، أن الدبلوماسية العربية هي جهاز خارجي لمؤسسة استبدادية تعتمد الأمن منهجاً، وتستكتب دبلوماسييها التقارير بحقّ كل من خالفها الرأي، ولا تسألهم أن يفقهوا بألف باء العمل الدبلوماسي، أو تمثيل مصالح البلد الذي أوفدهم، بل تمثيل مصالح النظام الحاكم والاستماتة في الدفاع عنها. وبالطبع، يُكافأ مثل هؤلاء، بغضِّ نظرٍ، يكاد أن يكون ممأسساً، عن التجاوزات المالية والمسلكية التي ما فتئت البعثات الدبلوماسية تزخر بها.
وفي أكثر من محفلٍ دولي، برز دبلوماسيون مصريون من خلال مهنيتهم وقدرتهم الفائقة على الدفاع عن مصالح حكومتهم، مهما كان ذلك صعباً، بأساليب ذكية وهادئة، وبطرائق أعطت دروساً في الدبلوماسية لنظرائهم من دول العالم الثالث. فلو كان المطلوب هو الدفاع عن موقف حكومتهم، أياً كان، فقد كانوا قادرين على ذلك بالعمل الدؤوب والتواصل المثمر مع الجهات المختلفة دونما مواجهاتٍ لا طائل منها، أو مزاوداتٍ لفظية وخطابات خشبية.
إثر انقلاب الجيش في مصر سنة 2013، تدهورت الحالة السياسية عموماً، كما الحقوقية، وبدأت عملية "ملاحقة الشياطين" التي زجّت آلافاً في السجون، ودفعت آلافاً إلى الهرب، وبضعة منهم إلى الالتحاق بالمجموعات الراديكالية. وعلى الرغم من أن جزءاً من المسؤولية السياسية في ما آلت إليه الأمور، والتي لا لبس فيها، يتحمله النظام السابق للانقلاب، والذي أتى عبر صناديق الاقتراع، وظنّ أنه امتلك البلد بناسها، وصار يُقصي ويُسيء الإدارة، إلا أنه لم يقم، في الوقت القصير ربما الذي أتيح له، بما قامت به حكومة الانقلاب من تسييسٍ فجّ للقضاء، ومن تحشيد عسكري للدبلوماسية.
إبّان العهود الغابرة، كان الدبلوماسي مثلاً يحضر محاضرةً لباحث مصري أو غير مصري في
بلد أجنبي، ويسجل ملاحظاته، وربما طلب الكلام في نهاية المحاضرة للتعقيب عليه، أو محاولة تصحيح بعض ما يظنه ورد خطأً، أو يحاول أن يدافع عن موقف حكومته، إن وجد في الموضوع تعرّضاً لها من قريب أو من بعيد. وفي أحيانٍ كثيرة، كان هذا الدبلوماسي يحتفظ بملاحظته للقاءٍ منفرد يلي المحاضرة، يُعبّر من خلاله عن ملاحظاته أو تحفظاته. أما اليوم، وبعد أن صارت العقلية الأمنية أكثر تحكّماً، صار لزاماً عليه أن يُقاطع المُحاضر أو يُحدث الضجيج، سعياً إلى التشويش أو محاولاً إيقاف العرض. وقد امتدت هذه "المهنية" إلى المواضيع التي لا تتعرّض لحكومته من قريبٍ أو من بعيد، ولكنها ربما تُشعره بضرورة التصدّي لحامليها، كما إن جرى التعرّض لمسائل الانتهاكات في الدول العربية أو الفساد المؤسسي أو علاقة الجيوش بالحياة السياسية، ولو من الجانب النظري العلمي البحت. كما أضاف إلى سجل "إنجازاته" إعطاء الدروس للمحاضرين في مواضيعهم، كالذي قال مرةً لمحاضر عن المسألة السورية: "سأفهّمك ما هي سورية (...)".
وأخيراً، خير ما يُلخّص حال القضاء الحالي الذي يُصدر أحكام الإعدام بالجملة مشهدٌ تمثيليٌ طريفٌ، يُظهِرُ قاضياً يُحيل أوراق متهمين إلى المفتي العام، للبت في إعدامهم، فينبهه مساعدوه إلى أن القضية تتعلق بمسألة طلاق (...).