استهداف قطر.. أي جنون هذا؟

استهداف قطر.. أي جنون هذا؟

09 يونيو 2017
+ الخط -
كلما مَنَّيْنا أنفسنا، نحن العرب، بأننا قد نكون قد ارتطمنا بالقاع خلال سقوطنا الحر، أو أننا شارفنا على ذلك، وجدنا أنفسنا نستيقظ على الحقيقة الكارثية المُرَّةِ: ما زلنا بعيدين عن الارتطام القاسي بغور القاع، وبالتالي فإن موضوع لَمْلَمَةِ الذات وبدء التخطيط للتسلق إلى الأعلى من جديد ما زال وَهْماً كبيراً. طبعا كلما زادت مسافة السقوط ومدته كان الارتطام بالأرض أقسى وأكثر تدميراً. ولنكن صريحين، لا أحد يعرف إن كنا سننجو "أمة عربية" من الارتطام المرتقب، فالمؤشرات تفيد بعكس ذلك.
بعيداً عن خداع الذات، ليس مبعث الحملة الشرسة على قطر تلك المزاعم الكاذبة بأنها تموّل الإرهاب، أو أنها تنسج علاقات خلفية مع إيران، وتساهم في زعزعة استقرار المنطقة، إلى آخره من الأكاذيب الملفقة، تماما كما التصريحات المفبركة التي نُسبت للأمير تميم بن حمد، بعد اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية قبل أسبوعين. السبب الحقيقي للحملة هو اختزان قطر واحتضانها بعض روح التغيير العربي المنشود والموؤود في آن. ذنب قطر في مقاربة الناقمين عليها قربها من النبض العربي الأصيل، وتوظيفها ثرواتها الطبيعية، إلى حد كبير، لخدمة مستقبل عربي جَمَعِيٍّ أفضل، في الوقت الذي تستثمر فيه ثرواتها الطبيعية في بناء ذاتها ومقدراتها وترفيه شعبها. قطر ليست دولة بسياسات ملائكية صرفة، ولا هي زعمت ذلك يوما. فيها أكبر قاعدة عسكرية أميركية، وكانت لها علاقات مع إسرائيل يوما، ولها بعض سياسات لا نؤيدها نحن الشعوب، بل إن قطر نفسها لا تنفي ذلك. النكتة السمجة هنا أن يوظّف أنصار معسكر الثورات المضادة هذه المعطيات ضد قطر. فإن دافع أحد عن قطر، وجد جحافل من أنصار الكبت والقمع والارتكاس يذكّرونه بقاعدة العديد العسكرية. وإن شكرناها على دعمها قطاع غزة المحاصر من الشقيق قبل العدو، خرج من يعيّرك بأنه كانت لها علاقات مع إسرائيل. المشكلة هنا، أن كل معسكر الارتكاس العربي متحالفٌ مع الولايات المتحدة في حربها على ما يصفونه الإرهاب، ويوفرون لها قواعد برية وبحرية وجوية، كما أن لأغلبهم، إن لم يكن لكلهم، علاقات علنية وسرية مع إسرائيل. بل إن في من يشنّع على قطر بزعم محاولتها اجتراح علاقاتٍ متوازنة مع إيران من هو على علاقات أقوى وأوثق بها، خصوصا اقتصاديا، ودولة الإمارات المثال الأوضح والأبرز على ذلك.
إذن، هُمْ ينقمون على قطر موازنتها بين متطلبات النظامين، الإقليمي والدولي، وما بين
استفادتها إلى الحد الأقصى من الهوامش المتاحة فيهما لخدمة بعض ما نصبو إليه نحن العرب ونرجوه. ينقمون عليها أنها تتبنى سياسة مستقلة، ضمن حدود المتاح والممكن، بعيدا عن نوازع الوصايتين، الإقليمية والدولية. وينقمون عليها أنها أجارت المظلومين والمطاردين الذين ضاق بهم قمع بلادهم. ولو أن من يستهدف قطر اليوم عربيا فكّروا بمنطق الدولة، لا بمنطق النظام، لأدركوا أن قطر تقدّم خدمة جليلة لهم، كما للشعوب العربية التي يعادونها بسببها. كيف ذلك؟
قطر، عملياً، هي المُتَنَفَّسُ الوحيد المتبقي في الفضاء العربي، وهم إذا نجحوا في سدّه، لا قدّر الله، فإنهم لن يُبقوا على أي مسارب لتنفيس الاحتقان في المنطقة، وحينها فإن الانفجار في الإقليم كله حَتْمِيٌّ، ولن يكون إلا مسألة وقتٍ فحسب. إن أغلقت كل المنافذ على تياراتٍ مثل جماعة الإخوان المسلمين، فما الذي يضمن عدم توجه أبنائها نحو العنف، إن حُرموا أسباب "العقلانية"؟ إن أُلْجِمَتِ "الجزيرة" فكيف سيتم تصريف الغضب المكبوت عند الشعوب؟ كما أنه إن طردت قيادة حركة حماس من الدوحة، فأي حضن أُبْقِيَ لها غير الحضن الإيراني، خصوصا أن تركيا تتعرض لحملة التشويه والاستهداف نفسها؟
قد يجادل محور الارتكاس العربي بأننا قادرون على التصدّي لكل تلك التحديات، لكن التاريخ والواقع يكذّبانهم، فالإرهاب ما زال يتمدد، و"داعش" وشبيهاتها تمكّنت من السيطرة على مساحاتٍ واسعة في دول عربية، حتى وأميركا والعالم يحاربونهم، وهم ما زالوا يزعزعون أركان المنطقة وأسسها، والأسوأ قد تكون نسخة أكثر تطرفا وإجراما في طور التشكل. أما إيران، فإن عقودا طويلة من الاحتواء لم تفلح في كسرها، وفي كف أياديها في الإقليم، بل حصلت تحت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، على اعترافٍ بأنها قوة إقليمية شرعية ومعتبرة، وقد يبقى هذا هو الحال، أو أنه قد يتجدّد. أما من يراهن على دونالد ترامب اليوم، فإنه يرتكب خطأً استراتيجيا فادحا. فترامب، حتى ولو أكمل مدة رئاسته كلها، لن يبقى حاكماً عقوداً. أضف أنه ليس على وفاق مع مؤسسة الحكم في بلده، بل هي ممتعضة منه، ومن رعونة تصريحاته وتغريداته وتصرفاته. النقطة السابقة مهمة، لأن محور التصعيد مع قطر
يظن أن تغريدات ترامب الملمِّحة إلى تأييده محاولات حصارها تعطيهم الضوء الأخضر للمضي أبعد من ذلك. ولكن الحقيقة أن مؤسسة الحكم في الولايات المتحدة، وتحديدا تحت إدارتي جورج بوش الابن وأوباما، وعلى الرغم من امتعاضها من كثير من سياسات قطر، إلا أنها نظرت لها رئة للتنفس في منطقةٍ محتقنةٍ مخنوقةٍ لمنع حدوث انفجارات مدوية فيها، تعود بتداعياتٍ كارثيةٍ على الأمنين والاستقرارين الإقليمي والعالمي. ولذلك تعايشوا على مضض مع استضافتها قيادات من حركة حماس، وتاليا من "الإخوان المسلمين"، كما بلعوا بصعوبة تغطية "الجزيرة" ملفاتٍ كثيرة، بل استعانت إدارة أوباما بقطر في ملفاتٍ أمنية كبيرة، مثل التفاوض مع حركة طالبان الأفغانية. وحتى إن تغيرت هذه الحسابات تحت إدارة ترامب، فإنها ستعني مزيدا من التوتير في المنطقة، في انتظار الانفجار المدوي.
من أسفٍ، حقَّ لإسرائيل وإيران أن يفرحا بحماقاتنا.. إننا ندمر أنفسنا، فلماذا يتعبون أنفسهم بتدميرنا؟ لقد انحدرنا منحدرا زلقا، أصبحت إسرائيل حليفا لمجرد الكره المشترك لإيران، وكأن إسرائيل بريئةٌ من دمائنا وأعراضنا وأراضينا! قال لي صديق يوما: لو أننا تناولنا محمداً صلى الله عليه وسلم خارج سياق النبوة، ولم يكن من إنجازاته غير أنه تمكّن من توحيد العرب لكفاه ذلك سبباً للعظمة. للأسف، إننا أمة تَخْتَزِنُ جهلا كثيرا، ولم يعد لنا إلا أن نسأل الله جَلَّ جلاله أن يلطف بالعرب، أو من سيتبقى منهم.