بين الإرهاب والسياسة..البحث عن سلطة القانون في محاكم مصر

البحث عن سلطة القانون في محاكم مصر

09 يونيو 2017

محمد بديع ومحمد البلتاجي أمام المحكمة في القاهرة (7/2/2017/الأناضول)

+ الخط -
أصدرت الحكومة المصرية، أخيراً، في نشرتها الرسمية "الوقائع المصرية"، قراراتٍ لمحكمة جنايات القاهرة متعلقة بإدراج مئات من المواطنين المصريين، وفي مقدمتهم مرشد جماعة الإخوان المسلمين، محمد بديع، على قوائم الإرهاب ثلاث سنوات، وبلغ عدد المواطنين المصريين الذين شملتهم ثمانية قرارات محاكم 646 مواطناً. وعلى الرغم من أن هذه القرارات صدرت قبل عدة شهور، إلا أن توقيت نشرها الآن في الجريدة الرسمية يهدف، على ما يبدو، إلى حمايتها من إمكانية الإبطال القضائي بدعوى عدم النشر. إذ أكدت المحكمة الدستورية العليا، في قراراتٍ عديدة، إن تطبيق قرار حكومي، قبل نشره رسمياً، هو سبب للبطلان، إذ يخالف تعليمات الدستور، ويزيل عنه صفة الإلزامية القانونية. تستعرض السطور التالية هذه القرارات، وتتساءل عن تطويع القانون لأغراض سياسية، وعن مدى نجاح القضاء العدلي المصري في حماية أبسط حقوق المواطنين.

أين الأدلة؟ أين المراجعة القضائية؟
ومما يلفت الانتباه، في هذه القرارات القضائية، أنها صدرت عن المحكمة نفسها والدائرة نفسها وتركيبة القضاة واليوم نفسه. فقد أصدرت الدائرة 16 جنوب في محكمة جنايات القاهرة، برئاسة رئيس المحكمة، المستشار عبد الظافر الجرف، وعضوية المستشارين، عبد الباسط الشاذلي ومحمود مصطفى، أربعة قرارات في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 تتعلق بـ 149 مواطناً، وقراراً إضافياً في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2016 يتعلق بـ 154 مواطناً. في حين أصدرت الدائرة 17 شمال القاهرة في المحكمة نفسها، برئاسة رئيس المحكمة المستشار جيلاني حسن أحمد، وعضوية المستشارين، محمد نبيل شلتوت وعادل الغويط، ثلاثة قرارات، في 4 يناير/ كانون الثاني 2017، تتعلق بـ 343 مواطناً. ويثير هذا الاعتماد على ثلة من القضاة لإصدار قضايا من هذا النوع بهذه السرعة التساؤل عن تطويع السلطة الحاكمة للقضاء باختيار القضاة والدوائر بعناية للمصادقة على إجراءات سلطوية من هذا النوع، لتجنب العقبات القضائية المحتملة أمام تنفيذها.
الأمر الآخر اللافت في هذه القرارات قصرها الشديد، فلا يزيد طول أي منها عن الصفحات
المعدودة. وهذا يثير الشك بجدية المراجعة القضائية لهذه القرارات الحكومية التي تمسّ حقوق المئات من المواطنين المصريين. حيث أن قائمة أسماء المشمولين في قوائم الإرهاب التي تتصدر هذه القرارات تزيد طولاً عن التبرير القضائي لهذا الإجراء الأمني. ولم تتطرق المحاكم، في أي من هذه القرارات، للأدلة العينية ضد الأفراد، وإنما حكمت عليهم بشكل جماعي من دون أي نقد أو تمحيص لادعاءات السلطة ضدهم، ومدى جدية الأدلة ومصدرها. بالعكس، تعاملت المحكمة مع الأدلة، كأنها في حكم الثابت.
وكانت محكمة النقض (الدائرة الجنائية) قد انتقدت مثل هذه الأحكام القضائية الضعيفة والموالية للسلطة الحاكمة في قرارها، الصادر في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. حيث كانت المحكمة، برئاسة المستشار فرغلي زيناتي، قد ألغت قراراً سابقاً لمحكمة جنايات القاهرة (الدائرة السادسة شمال القاهرة) المؤرخ يوم 14 إبريل/ نيسان 2016 بإدراج جماعة الإخوان المسلمين على قائمة الكيانات الإرهابية، وإدراج أسماء أفراد على قائمة الإرهابيين. فقد قالت المحكمة إن "القرار المطعون فيه قد صدر خالياً من الأسباب التي بني عليها فلم يبين تاريخ تقديم الطلب إلى الدائرة، وفحوى التحقيقات والمستندات المؤيدة له ووجه استدلاله بها، فإنه يكون معيباً بالقصور في التسبيب، مما يبطله ويوجب نقضه والإعادة".

أمن أم سياسة؟
وعلى الرغم من أن قرار محكمة النقض يستند إلى عوار قانوني شكلي. وبالتالي، لا يؤسس لمراجعة قضائية للقرارات الأمنية الطابع، إلا أنه يوضح مدى ضعف القضاء في الدفاع عن حقوق المواطنين، عندما يُواجهون بتهم أمنية فضفاضة من نوع الإرهاب، يختلط فيها حابل "الإرهاب" بنابل السياسة، فمن الواضح أن حكوماتٍ كثيرة تستغل تهمة الإرهاب لقمع معارضيها، وبدلاً من تعريفها بشكل تقني وضيق متعلق بأمور أمنية محدّدة، يتم تعريفها بشكل واسع، لتخدم دوراً سياسياً، وتشمل عدداً أكبر من الناس، وبالتالي تهدّد حقوق المتهمين الأساسية، وقلما تتجرأ المحاكم بمعارضة الأجهزة الأمنية، خصوصاً في ظروف عدم استقرار ونزاعات. ومثال اختلاط الأمن أو الإرهاب بالسياسة أن التهم الموجهة لمرشد الإخوان المسلمين وآخرين تتضمن "قيادة جماعة أُسست على خلاف القانون، الغرض منها تعطيل أحكام الدستور، ومنع مؤسسات الدولة والسلطات العامة من ممارسة أعمالها". كما شملت الاتهام تجاه بعضهم بأنهم "أذاعوا عمداً في الخارج أخباراً وبيّنات وإشاعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية للبلاد بأن بثوا عبر شبكة للمعلومات الدولية، وبعض القنوات الفضائية، مقاطع فيديو وصوراً وأخباراً كاذبة، للإيحاء للرأي العام الخارجي بعدم قدرة النظام القائم على إدارة شؤون البلاد، وكان من شأن ذلك إضعاف هيبة الدولة واعتبارها، والإضرار بالمصلحة القومية للبلاد، وتكدير الأمن العام وإلقاء الرعب بين الناس، وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة" (ينظر قرار محكمة جنايات بتاريخ 24 أكتوبر 2016 في القضية 2210/10 لسنة 2014 النيابة العامة ضد محمد بديع عبدالمجيد محمد سامي و50 آخرين). ولا تذكر المحكمة أي تفاصيل أخرى، أو مستندات تدعم كل هذه الاتهامات، وتربط بين الأفعال والنتائج المزعومة. وضعف القضاء في حماية حقوق المواطنين بارز للعيان أيضاً عندما تستغل السلطة محاكم معينة دون أخرى. ففي 23 سبتمبر/ أيلول 2013، حظرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة حركة الإخوان المسلمين، وكل المؤسسات المرتبطة بها، أو الممولة مالياً منها، وسبب هذا الحظر في رأي المحكمة هو نشاطات الإخوان "الإرهابية". وكان دليل المحكمة على هذا الإرهاب هو تعريفات قاموسية لكلمة إرهاب، وبعض الآيات القرآنية، لا أدلة مادية ملموسة لتبرير إجراء صارم من هذا النوع، يحد من قدرة المواطنين على معارضة نظام الحكم سياسياً وبطريقة شرعية عن طريق تنظيمات سياسية.
ومما يشكّك في التبريرات الأمنية لهذا الحظر هو دوافعه السياسية، فبتاريخ 9 أغسطس/ آب 2014 قامت المحكمة الإدارية العليا بحل حزب الحرية والعدالة التابع لحركة الإخوان
المسلمين. ومن الواضح أن الطابع الديني للحركة ليس سبب الحل الحقيقي، على الرغم من ادعاء السلطة أن الحزب يميز ضد المواطنين على أساس ديني. ذلك أن المحكمة الإدارية رفضت، في عدة مناسبات لاحقة للانقلاب، حل حزب النور السلفي، على الرغم من طابعه الديني الأكثر تشدداً من "الإخوان المسلمين". وعلى الرغم من المسببات الأمنية التي ذكرتها السلطة ضد حزب الحرية والعدالة، إلا أن المحكمة اعتمدت، في نهاية الأمر، على الادعاء أن الحزب يخالف المبادئ الدستورية والوحدة الوطنية والأمن القومي، وينتمي لحركة أجنبية، هي حركة الإخوان المسلمين العالمية. ومن قراءة التبرير القضائي، يتضح أنه لا علاقة مباشرة للدليل على ذلك كله بالأمن، بل خلافات سياسية. وفي صلب ذلك تسمية الحركة لإطاحة محمد مرسي انقلاباً، ورفضها الشرعية الدستورية للنظام الجديد، ما يؤدي، في رأي المحكمة، إلى نشر بذور الفرقة والانقسام في المجتمع، ويوفر الأرضية للعنف. وتعتمد المحكمة في ذلك كله على إفادة مرشد الإخوان المسلمين، محمد بديع، ضمن تحقيق عسكري. ولا تتساءل المحكمة بتاتاً عن قيمة مثل هذا المستند الذي جباه المحققون في ظروف إكراه وانعدام حرية الإرادة.

ليس ضد الإخوان فقط
ومما يشكك في التبريرات الأمنية لهذا الحظر أيضاً اتساع دائرة القمع، بعد إطاحة الجيش محمد مرسي في يوليو/ تموز 2013، لتشمل أي نشاط سياسي لا يروق لنظام الحكم، حتى لو لم يكن إسلامياً أو موالياً للإخوان المسلمين، فقد ذكرت منظمات حقوق الإنسان إنه، في السنة الأولى ما بعد الانقلاب، تم اعتقال ما بين 16000 إلى 41000 شخص. كما أغلقت السلطات في الفترة نفسها ما يعادل 1075 مؤسسة ومدرسة تابعة لحركة الإخوان، من دون توفير أدلة جدية لادعاءاتها أن هذه المؤسسات ذات نشاطات إرهابية. وفي بعض الحالات، نقضت المحاكم ضم مدارس لهذه القائمة، إذ اتضح للمحكمة أن لا علاقة للمدرسة بحركة الإخوان. وهذا يدل على أن السلطات تخلط الحابل بالنابل تحت مسمى الإرهاب.
شمل هذا القمع أيضاً حركة شباب 6 أبريل، بعد أن بدأت هذه الحركة بانتقاد حكم العسكر في الأشهر التي تلت الانقلاب، ونعتت المجلس العسكري بالكذب، وطالبت بإعادة الحكم إلى المدنيين. فبتاريخ 28 أبريل/ نيسان 2014، قرّرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة حظر الحركة، وإغلاق مقرها بدعوى مخالفة قانون الجمعيات. ومما يدعو إلى الدهشة في هذا القرار ويوضح الدوافع السياسية، وبؤس الحجج الأمنية، أن المسببات تشمل إشاعة الفوضى. وبالتالي تهديد القطاع السياحي والإضرار بالاقتصاد المصري. وبما أن الحركة جمعية تعتمد على تمويل خارجي (بالأساس من ممولين من الولايات المتحدة الأميركية)، وبالتالي هي تخدم أجندات خارجية. وهذا التبرير مثير للسخرية، إذ أن النظام المصري الذي يتهم خصومه بذلك نفسه يخدم أجندات خارجية. فمنذ عقود، يحصل النظام المصري على قروض عسكرية واقتصادية أميركية سنوية ضمن تبعيته الاقتصادية والسياسية للمنظومة الإمبريالية والرأسمالية الأميركية، فمنذ عام 1948، حصلت مصر على 77 بليون دولار. بدأت معظم هذه القروض في عهد السادات بما يزيد عن بليون دولار سنوياً. وقد أوضحت الأبحاث الأكاديمية أن هذه "القروض" و"المساعدات" تفيد الشركات الرأسمالية الأميركية على حساب تخطيط اقتصادي لمصلحة الشعب المصري، وتفيد المصالح الأمنية والجيوستراتيجية الأميركية، لا الأمن القومي المصري المستقل الإرادة. كما شمل القمع روابط مشجعي كرة القدم المعروفين بالألتراس، وهي روابط مجتمع مدني، بمعنى أنها ليست مسجلة رسمياً، ولا هي جمعية أو حزب. وعلى الرغم من أن هذه الروابط لا هدف سياسياً لها، إلا أنها لعبت دوراً سياسياً مهماً في مناسبات عديدة، حيث أن صدامها المستمر مع ممارسات الشرطة القمعية، قبل إطاحة مبارك، أعطى هذه الروابط طابعاً معارضاً للسلطة والبطش والظلم.
وبعد ذلك، برز دورها في حماية المتظاهرين المطالبين بإسقاط نظام حسني مبارك. ثم عادت إلى الواجهة، بعد عدة مواجهات دموية مع الشرطة، بدت كأنها انتقام شرطي من هذه الروابط على دورها في الثورة. ففي 16 مايو/ أيار 2015، استجابت محكمة جنوب القاهرة
الابتدائية (الدائرة الثانية عشر – مستأنف مستعجل) لطلب مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك بحظر هذه الروابط في مصر لممارستها نشاطاتٍ، من شأنها "تكدير السلم العام وتهديد الحياة والممتلكات والسلام الاجتماعي"، وانتقدت الروابط بسبب "محاولة النيل من هيبة الدولة"، نظراً لتحديهم واصطدامهم مع قوات الأمن والشرطة. ومصادر الغرابة في القرار أن لم يمثل الألتراس قانونياً، ولم يدافعوا عن أنفسهم ضد هذه الاتهامات، وبالتالي لم تتوفر شروط المحاكمة العادلة. وكذلك، تعترف المحكمة بعدم وجود التشريع القضائي "الضابط لتشكيلهم والمعاقب لأفعالهم". وغرابة ذلك أن انعدام التشريع لم يكن عائقاً أمام المحكمة بقرار حلهم، بل تم حلهم في انتظار التشريع. أي أن الأصل المنع بدل أن يكون الأصل الحرية في انعدام المنع التشريعي. كما يأتي هذا القرار معاكساً للقرار الأولي لمحكمة درجة أولى، برفض الطلب. حيث قالت المحكمة، بمنطقٍ لا غبار عليه، أن انتشار هذه الروابط يدل على "اختلال العلاقة بين الشباب والدولة"، وإذا كان بعض أفراد هذه الروابط قد خرقوا القانون، فعلاج ذلك عن طريق القانون الجنائي الذي يبت في جرمهم، ويعاقبهم وفقاً للقانون، إذا تمت إدانتهم. أما أن يتم حل هذه الروابط الاجتماعية فهو عقاب جماعي، بالتالي، فإن حظرها لا تبرير له، ويخرج عن اختصاص المحكمة.
خلاصة الأمر، يقوم النظام المصري بتجريم المعارضة السياسية تحت مسميات الأمن والإرهاب، ويحوّل الخلاف السياسي إلى أمور جنائية، يعاقب القضاء عليها. وبدلاً من معاقبة أفراد خرقوا القانون، يتم معاقبتهم جماعياً، ومنعهم من التنظّم سياسياً واجتماعياً في حركات وروابط وأحزاب تخلق متنفساً شرعياً لمعارضة نظام الحكم. ومن المؤسف أن القضاء العدلي المصري فشل فشلاً ذريعاً في حماية حقوق المواطنين من هذا القمع.