عقول حزيران 67 لا تزال تحكمنا

عقول حزيران 67 لا تزال تحكمنا

07 يونيو 2017
+ الخط -
في مثل هذه الأيام من كل عام، يجب تذكّر الحادث المزلزل الذي حدث منذ خمسين عاماً، وتسبب في سلسلة من الكوارث والنكسات على مصر والوطن العربي، وفي سلسلة من التغيرات والشروخ العميقة في الشخصية المصرية والعربية، كما تسببت في انهيار الشعارات والأحلام أو الأوهام العربية الكبرى.
إنها الهزيمة الكبرى للمشروع العربي في يونيو/ حزيران 1967، والتي يطلقون عليها النكسة، محاولة للتخفيف أو محاولة لخداع النفس، إنها الهزيمة الكبرى التي لا نزال نعاني من تبعاتها، ويبدو أن أجيالا أخرى ستظل تعاني سنوات مقبلة، لأن الأمر لم يتوقف على الهزيمة الكبرى وتبعاتها وآثارها الجيوسياسية والمجتمعية التي تزداد فداحة كل يوم، بل أيضا لأن العقلية التي كانت تحكم البلاد وقادت، بكل قلق وغرور وحماقة، نحو هزيمة يونيو/ حزيران 1967، هي العقلية نفسها التي لا تزال تحكم. فهل كانت هزيمة 67 حدثا عارضا مفاجئا عن إرادة من كان يحكم؟ هل كانت مؤامرةً ضد الزعيم كما يزعمون؟ أم كانت نتيجةً معروفةً ومتوقعةً بعد سنوات تراكم القمع والظلم والاستبداد والخداع والتدليس والدعاية الكاذبة؟
في سلسلة مقالات بحثية لأستاذ ورئيس قسم التاريخ في الجامعة الأميركية، خالد فهمي، "خمسون عاما على الهزيمة"، يرصد فيها أحداثا ووقائع وأسرارا موثقة، قد يكون بعضها غير معروف أو غير دارج أو تم طمسه وإخفاؤه بتعمد، خصوصا الشهادات عن دور المخابرات والأجهزة الأمنية التي "كانت ولا تزال" تحكم مصر، في تغييب الوعي وخداع الشعب.
وبأسلوبٍ شائق، يذكر خالد فهمي مقتطفات من كتب ووثائق وشهادات موثقة، مثل كتاب "ضباط يونيو يتكلمون"، وينقل شهاداتٍ مأساوية للطيارين، مثل الاستدعاء المفاجئ الذى حدث للطيارين يوم 14 مايو/ أيار 1967، واجتماعات قادة القوات الجوية مع الطيارين وقادة الأسراب للتعرّف على خطة الدفاع إن قامت القوات الإسرائيلية بالهجوم، والتي فوجئ الطيارون بعدها أن الصور غير الواضحة التي تسلموها للأهداف قد تم تصويرها عام 1948، ولم يتم تحديثها، ولا يملكون غيرها. ويعترف قائد القوات الجوية والدفاع الجوي، الفريق صدقي محمود، بأن أجهزة المخابرات فشلت في اكتشاف أن سلاح الجو الإسرائيلي طوّر طائراته لتتمكّن من بلوغ العمق المصري، وهي المعلومة التي كان يجهلها سلاح الدفاع الجوي في ذلك الوقت، وكان يمكنها تغيير مجرى الحرب. ويكشف الكتاب أن سلاح الجو لم يقم بطلعات استطلاعية كافية على مواقع العدو، وأن الطائرات القليلة التي قامت بطلعاتٍ عادت بصور مشوشة، لأن الكاميرات المثبتة على الطائرات كانت بدائية.
أما قائد الطيران في المنطقة الشرقية في سيناء، اللواء الطيار عبد الحميد الدغيدي، فيقول إن
قوةً استطلاعية في العريش تبين لها، ليلة 4 يونيو/ حزيران 1967، أن القوات الاسرائيلية بدأت في التحرّك بالفعل، وتمكنت من احتلال نقاط مهمة بين رفح والشيخ زويد شمال شرق سيناء، وأن العدو ينوي الهجوم في صباح اليوم التالي، 5 يونيو/حزيران. وبالفعل، أرسل إشارة بهذا المعنى إلى القيادة، لكن القادة كلهم كانوا قد تركوا أماكنهم استعدادا لزيارة المشير عامر صباح 5 يونيو/حزيران. ويضيف الدغيدي، في الحديث نفسه، كيف كانت قوة الاستطلاع التابعة له تتجسّس في الأساس عليه هو لحساب قياداتٍ في الجيش المصري، ولا تتجسس على العدو.
ويذكر قائد المنطقة المركزية، الفريق صلاح الدين الحديدي، في كتابه "شاهد على حرب 1967" حادثة أخرى، توضح انهيار إدارات جمع المعلومات وتحليلها، فيقول إن هجوما بريا وقع في صباح يوم 5 يونيو/حزيران، قبل الهجوم الجوي الكاسح بساعتين، وقامت به طلائع القوات الإسرائيلية على المحور الأوسط في سيناء، وتم فيه احتلالها موقعاً متقدماً داخل حدودنا، كانت تدافع عنه سريةٌ من المشاة الهجوم، ولو كانت أخبار هذا الهجوم قد وصلت إلى قيادة الجيش في سيناء، أو في القيادة العليا في القاهرة، لكان من الممكن أن تقوم القوات المصرية بعملية ردع فورية، قبل أن تدمّر اسرائيل كل طائرات الجيش المصري في قواعدها، إذ ستكون إسرائيل البادئة بالحرب، وستكون مصر، في تلك الحالة، قد أوفت بتعهداتها للقوى الدولية بألا تبدأ هي الحرب. ولكن الكارثة الأفدح ينقلها رئيس الأركان، الفريق أول محمد فوزي، في كتابه "حرب الثلاث سنوات"، فحين شاهد الفريق أول عبدالمنعم رياض قائد الجبهة الأردنية من قاعدة عجلون بالأردن على شاشات الرادار عشرات القاذفات والمقاتلات الإسرائيلية تتجه غرباً، أرسل على الفور الاشارة المشفرة والمتفق عليها سلفاً. تلقت القاهرة الإشارة، ولكن لم يتمكن ضباط الاتصال من فك الشيفرة، فحدث ما حدث. أما إسرائيل فقد استطاعت أن تجمع معلوماتٍ دقيقة وصحيحة عن أدق تفاصيل قواتنا المسلحة، وأن تنشئ نظاما مكّنها من البناء على هذه المعلومات الدقيقة، وأن تضع خططها العسكرية بناء عليها.
ويرصد خالد فهمي مظاهر استعراض قوة الجيش المصري طوال السنوات السابقة للهزيمة، فعندما ظهرت الأزمة في 14 مايو/ أيار 1967، وبدأت عملية التعبئة، شاهد الملايين من سكان القاهرة قوات الجيش وهي تخترق شوارع العاصمة (الضيقة المزدحمة) في طريقها للجبهة في مشهد استعراضي عجيب، رغم وجود أكثر من طريق استراتيجي تم إنشاؤها خصيصا لتحرك قوات الجيش.
وبالفعل، كان مشهد الجيش مبهرا، وكان يحق للمصريين أن يفتخروا بأن جيشهم من أكبر جيوش المنطقة. فالجيش كان يمتلك أكثر من 1300 دبابة (إسرائيل كانت تمتلك ألفا)، وأكثر من ألف مدرعة حاملة للجنود (إسرائيل: 1500)، و950 بطارية مضادة للطائرات
(إسرائيل: 550)، و431 طائرة مقاتلة (إسرائيل 286) وكانت وسائل الإعلام كلها، الصحف والإذاعة والتليفزيون، تنقل كل شهر أخبار الانتصارات التي يحققها الجيش بالفعل في اليمن، وتتوعد بالهزائم التي سيوقعها حتما جيشنا الجرار بإسرائيل في المعركة المرتقبة.
يطول الحديث، وتحتاج المعلومات والروايات كتباً من أجل سرد بعضها، وهناك أسرارٌ مخزيةٌ لم تظهر بعد، ولكن لم تكن الهزيمة حادثا عارضا، ولم تهاجمنا أميركا وبريطانيا كما فعل جمال عبد الناصر في خطاب التنحي، عندما برّر الهزيمة وخدع الجماهير بالخطاب العاطفي، ولم تكن مؤامرةً كونية لإطاحة عبد الناصر، كما يزعمون حتى الآن، ولكن كل التحليلات والدراسات المبنية على حقائق وشهادات موثقة تقول إن ما حدث كان نتيجة لما سبقه، فقد كانت الهزيمة المخزية نتيجة تفرّغ أجهزة المخابرات والأجهزة الأمنية لمطاردة كل من لا يؤيد الزعيم ومعجزاته، وكانت بسبب تفرغ الأجهزة الأمنية لرصد كل ما يدور في النفوس، وأحيانا اختلاق مؤامراتٍ واعتقال آلاف المظلومين، لتبرير وجودهم وحماية سلطاتهم. حدثت الهزيمة نتيجة طبيعية لسنوات طويلة من القمع والفساد واستبداد الطبقة العسكرية الحاكمة، وكانت نتيجة لغياب الديمقراطية والشفافية والمحاسبة، وكانت نتيجة غياب المعلومات، ونتيجة خداع الرأي العام وتضليله، وكانت نتيجة طبيعية لتكميم الأفواه وتأميم المجال العام من نقاباتٍ وأحزابٍ وجمعيات، وكانت نتيجة طبيعية لحكم الفرد والأهواء الشخصية.
الأكثر فداحةً أن هذه العقلية هي التي تحكمنا حتى اليوم، بالأسلوب نفسه وبالنظام نفسه، وبالقمع نفسه إن لم يكن أشد، وبالمشروعات الفاشلة نفسها والدعاية الكاذبة والتضليل نفسيهما، الممارسات الأمنية نفسها، وكذا تكميم الأفواه وتجييش كل الموارد من أجل المراقبة والتنصت والتجسس على المواطنين، بحجة حماية الدولة التي لن تستقر إلا ببقاء الزعيم المنقذ، ولكن الأغرب أنهم يكرّرون الكوارث نفسها، ويتوقعون أن تؤدي إلى نتائج مختلفة واستقرارٍ ونهضة.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017