بطاقة المحرقة

بطاقة المحرقة

07 يونيو 2017

إبراهام بورغ.. كلَّ شيء مسموحٌ لأنَّنا عانينا من المحرقة(Getty)

+ الخط -
أُعلن في دولة الاحتلال الإسرائيلية، أخيرا، أن حكومة صربيا، لأول مرة في تاريخ هذه الدولة، ستعمل على تكريس ذكرى سكانها اليهود ضحايا المحرقة النازية، بالأساس من خلال تعديل منهاجها التربوي. فضلًا عن ذلك، ستقيم منظومة خاصة لإجراء أبحاث توثيقية حول هؤلاء الضحايا، بالتعاون مع معهد "اسم العالم" الإسرائيلي، وسيتم إطلاق ذلك كله في أثناء زيارةٍ قريبةٍ يقوم بها الرئيس الصربي، ألكسندر فونتشيش، إلى دولة الاحتلال.
ولدى إطلالةٍ سريعةٍ على الموقع الإلكتروني لهذا المعهد، يصادف المُتلقي أن غايته الرئيسة تتجسّد في جعل تاريخ المحرقة النازية لا سمة الحاضر فحسب، إنما أيضًا عنوان المستقبل في كل ما هو متعلقٌ بصيرورة اليهود ودولة الاحتلال. وهي ليست بعيدةً عن غاية الحكومات المتتالية لهذه الدولة، منذ اكتشفت أن بطاقة المحرقة رابحةٌ على الصعيدين، الداخلي والخارجي.
في آخر مظاهر استخدام هذه البطاقة، اختزل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في أثناء زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مؤسسة ياد فاشيم لتخليد ذكرى ضحايا المحرقة اليهود في القدس يوم 23 مايو/أيار الفائت، دوافع تلك المحرقة في دافع واحد ووحيد: "الكراهية تجاه اليهود لمجرّد كونهم يهودًا"، كي يجدّد القسم بعدم الوقوف مكتوف اليدين أمام تلك الكراهية إلى الأبد، من دون أن ينسى التشديد على أن هذه الكراهية ما تزال موجودة وستبقى.
قبل هذا المظهر، استُخدمت البطاقة نفسها مراتٍ يصعب حصرها، كان أبرزها مباشرةً بعد حرب يونيو/حزيران 1967، قبل نصف قرن، حين وقف وزير الخارجية الإسرائيلي، أبا إيبان، على منصة الأمم المتحدة، وأعلن أنه لا يجوز لدولة الاحتلال العودة إلى حدود ما قبل تلك الحرب. وسكّ، في ذلك الوقت، تعبيرًا لغويًا لم يتوقف استخدامه حتى الآن، حيث عرّف حدود الدولة التي كانت حتى الحرب إياها، أي ما يُعرف بـ"حدود الخط الأخضر" من عام 1949، بأنها "حدود غيتو أوشفيتز".
وعلى ذكر المحرقة، يكتب رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق، أبراهام بورغ، في كتابه "لننتصر على هتلر" (مترجم إلى العربية)، أنه يستحيل تفكيك "شيفرة" الواقع الإسرائيلي في كينونته الحالية، من دون فهم كيف تُحدّد المحرقة شكل التصرفات والتفكير والاستخلاص. وفي آخر المطاف، تصوغ هوية إسرائيل برمَّتها. ويؤكد أنه يتم استغلال ذكرى الضحايا مبرِّراً للسياسة الإسرائيلية عامة، ولسياسة التهجير والاحتلال والقمع في فلسطين خصوصا. ويكتب أنَّ "كلَّ شيء مسموحٌ لأنَّنا عانينا من المحرقة، ولا يجوز لأحدٍ أن يقول لنا ما يجب علينا فعله". ويضيف أنَّ "كلَّ شيء يبدو لنا خطرًا، ناهيك عن أنَّ تطوّرنا الطبيعي، بصفتنا شعبًا جديدًا ومجتمعًا جديدًا ودولة حديثة، قد توقَّف". كما أنه، عبر الإشارة إلى الماضي المتمركز من حول المحرقة، يتم، في الوقت الحاضر، الحفاظ على الشعور بالتهديد المستمر، على الرغم من أنه لم يعد ثمّة ما يبرِّره منذ فترة طويلة. ويرى أنَّ إسرائيل موجودة الآن، حيث كانت ألمانيا في نهاية فترة جمهورية فايمار، أي أنها، وفقًا لتوصيفه، دولة قوموية وذات نزعة عسكرية وأسيرة صدمة قومية تحول دون التوجّه من غير تحفّظات نحو المستقبل. ويرى أنَّ ما كانت تمثِّله معاهدة فرساي في ألمانيا، يتجلى في المحرقة في إسرائيل، فمثلما تم هناك كذلك يتم هنا تحديد الهوية الخاصة بمعزل عن الآخرين.
ولا بُد من أن نزيد أنه، مثلما أدّت المحرقة دورًا رئيسًا في هيكلة الواقع الإسرائيلي، لا تزال اليوم موضع رهانٍ لدرء أي ضغط أو عقوباتٍ من الخارج على دولة الاحتلال، في ظل تصاعد إجراءات تدويل القضية الفلسطينية.
علينا التنويه بأن بورغ يسعى إلى رصد كيفية دمج المحرقة على نحو مَرَضيّ في الرواية الصهيونية، ويجاهر بتوقه للتخلص من هذا الدمج، بما يؤدي، من وجهة نظره، إلى تطبيع دولة الاحتلال، ولا سيما على صعيد هوياتي، غير أن قراءته لا تنحو منحى رهن هذا التطبيع بمحو جميع الشرور التي ارتكبت حيال الشعب الفلسطيني.