قتيلان أم شهيدان؟

قتيلان أم شهيدان؟

06 يونيو 2017

تاليسين نامكاي.. قتل في دفاعه عن الأميركية المسلمة (2/6/2017/Getty)

+ الخط -
تُرى، كم صدمة حضارية يحتاج العرب لكي يدركوا مبلغ الفجوة التي تفصلهم عن عالم ريكي جون بستي وتاليسين ميردين نامكاي، اللذيْن قضيا نحبهما، دفاعًا عن فتاة مسلمةٍ في أميركا؟ وهل نجد أنفسنا مضطرين للعودة ثانية إلى صدمة الإمام محمد عبده الأولى قبل قرن، حين كتب: "رأيت في أوروبا مسلمين بلا إسلام، ووجدت في بلدي إسلامًا بلا مسلمين"؟ أم علينا أن نتمعن ثانية بعبارة فولتير: "قد أختلف معك في الرأي، ولكنني على استعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك"؟
سأكون مغرقًا في تشاؤمي، فأجيب بأننا لم نزل نحتاج إلى آلاف الصدمات الحضارية، ربما، لنستوعب ما يدور حولنا، بدليل أننا لم نزل مغرقين في جدل عبثي حول التصنيف "الديني" الذي ينبغي أن ندرج فيه موت المواطنين الأميركيين، هل هما شهيدان أم قتيلان "محترمان"، على أحسن تقدير، وهل سيدخلان الجنة في هذه الحالة، أم سيظلّ مصيرهما النار، على اعتبار أنهما ليسا مسلميْن؟ فيما نتغافل عن محتوى موتهما ذاته، الذي نادى به فولتير، حول استعداده للموت دفاعًا عن حق الآخرين بالتعبير عن رأيهم.
مؤسفٌ حقًا أن يكون الغربيون قد هضموا فلسفة فولتير، وطبّقوها بدمهم، فيما نحن لم نستوعب حتى الآن مغزى فلسفة عبارة محمد عبده، عن بلادنا المسلمة من دون إسلامٍ حقيقي، ذلك أن بستي ونامكاي لم يكن يعنيهما دين الفتاة، قدر ما كانا يدافعان عن حقها باختيار أي ديانةٍ أو فكرةٍ تؤمن بها في بلاد الحريات، وآخر ما كان يعنيهما أن نقيم لهما تمثالين، أو أن ندخلهما إلى الإسلام بعد موتهما، فالحرية هي الأهم، وهي التي تستحقّ التضحية، وفق ما قاله دمهما الذي غسل أرض الحافلة الملوثة بعنصرية القاتل، الخارج على تعاليم فولتير.
انطلاقًا من هذا الاعتبار المعمّد بالدماء، يبعث لنا هذان المواطنان "الكافران"، رسالةً قوامها أن المطلوب منا أن نكفّ عن محاكمة الآخرين وفق معتقداتنا، بل وفق حقهم باختيار معتقداتهم، وربما يوجهان لنا سؤالاً صادمًا: كم منا، نحن المسلمين، على استعداد أن يدافع حد الموت عن مسيحي مؤمن بصليبه، أو عن يهوديّ مؤمن بكنيسه، أو حتى عن ملحدٍ لا يؤمن بأي ديانة؟
وكم منا على استعدادٍ أن يدافع بدمه عن امرأة أزيدية تم سبيها وعرضها في سوق النخاسة للبيع أو الإيجار، أو عن قبطيّ يبحث عن طريق آمن ليصل إلى كنيسته، خشية أن يتم تفجيره بسبب معتقده؟
هل أجازف بالجواب: لا أحد، أم أزيد عليه أن ما يحدث هو العكس تمامًا، وأفظع مما يظن بستي ونامكاي، بعد أن أصبح القتل في بلادنا مرخّصًا للإجهاز على أصحاب الملة الواحدة أيضًا، فتستباح دماء الشيعي والسني والعلوي والدرزي وغيرهم، على أيدي بعضنا بعضاً، على قاعدة "اختلف معك بالرأي حدّ قتلك".
ولأن الدم أصبح ضد الدم، لم يعد مستغربًا أن يهاجر المسيحي والمسلم معًا، هرباً من بلادٍ لم يعد يعرف فيها المرء بأي معتقدٍ ينجو من سيوف الآخرين، فالحاجز يتلو الحاجز، والقاتل يتلو القاتل، والفكرة تغتال الفكرة.
على هذا الأساس، أيضًا، كيف ستكون صدمتنا لو عرفنا أن "الشهيدين"، بستي ونامكاي، ملحدان، مثلاً، هل سنعاود التصنيف ثانيةً لندرجهما في باب "الكفر" أو "الشرك"، أو الخروج على رأي الجماعة؟
بستي ونامكاي غادرا العالم وظلت فكرتهما، أما نحن فتموت فكرتنا قبل موتنا، لأننا لسنا مستعدين للموت دفاعًا عن أفكار الآخرين، كما نموت دفاعًا عن فكرتنا.. تلك هي المعضلة التي لم نزل نحتاج إلى ألف صدمةٍ حضاريةٍ لندركها.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.