الحرب على الفساد في تونس.. الدولة الغنائمية والمجتمع المدني

الحرب على الفساد في تونس.. الدولة الغنائمية والمجتمع المدني

30 يونيو 2017

مظاهرة في تونس العاصمة ضد الفساد (13/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -
تعيش تونس، منذ أسابيع، في أجواء الحرب على الفساد، ولا سيما بعد الإعلان عن إيقاف رجل الأعمال، شفيق الجراية، وإيداعه السجن، ورجل الأعمال والسياسي الذي ترشح للانتخابات الرئاسية سنة 2014، ياسين الشنوفي، وهو كادر إداري كان يعمل في الجمارك التونسية سابقا، ثم استمرت الإيقافات، لتشمل مهرّبين وتجارًا وأشخاصًا تَحُومُ حولهم تهم الفساد والرشوة والتهريب، تمّ وضعهم رهن الإقامة الجبرية. وكان يوسف الشاهد، عندما استلم رئاسة الحكومة الحالية قبل سنة، قد أعلن عن أولوياته، وهي كسب الحرب على الإرهاب، وإعلان الحرب على الفساد.
والسؤال الذي تطرحه الأوساط الناشطة في الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التونسي: هل ما يقوم به يوسف الشاهد يدخل في نطاق الحرب الفعلية على الفساد، أم هي مجرد معركة انتقائية؟
الآراء في تونس متباينة من حملة حكومة الشاهد على الفساد، فهناك من صدّقوا الحكومة بأنها انطلقت فعليا في حربها ضد الفساد، وطالبوها بأن تمضي إلى النهاية، ولا تستثني أحدًا، وعبروا عن دعمهم لها ومعاضدتهم جهودها .وفي المقابل، شكك آخرون في خلفيات هذه الحملة، وطالبوا الحكومة بأن توضح ما حدث، وأن تصارح الشعب بالحقيقة. هل هي مقاومة فساد فعلا، أم خيانة عظمى، أم تصفية حسابات، أم إعادة ترتيب البيت؟ وإن كانت مقاومة فساد، فهل ستقطف كل الرؤوس الفاسدة أم ستكون انتقائية؟
من منظور مكونات المجتمع المدني التونسي، وكذلك انتظارات الشعب التونسي، لا يجوز أن تكون الحرب على الفساد مقتصرةً على شخص، أو مجموعة أشخاص، بل يجب أن تكون حربًا حقيقية ضد منظومة الفساد التي نمت وتغلغلت في ظل الدولة الغنائمية التونسية. وإذا كانت الثورة التونسية (2010-2011) قد أسقطت بسرعة رأس النظام الاستبدادي الذي كان يحكم البلاد منذ 23 سنة، فإن رجال الأعمال الفاسدين والنافذين الذين تلوثوا بمنظومة الرئيس
 السابق، زين العابدين بن علي، وأيضًا قدماء موظفي الجهاز الاستبدادي الفاسد في الجمارك، ووزارة الداخلية، ونظرًا لما يمتلكونه من سيولة مالية كبيرة، لا يزالون يُحَرِّكُونَ في الظِلِّ خيوط اللعبة في الكواليس، للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية، ويُؤَثِرُونَ في الأجندة الإعلامية والسياسية في البلاد، ويُقَوِّضُونَ الأحزاب السياسية الحاكمة في تونس، لا سيما "نداء تونس"، ويُعَرْقِلُونَ الإصلاحات الكبيرة في المؤسسات العمومية، من خلال سيطرتهم على البرلمان.
بعد ست سنوات من بداية الحقبة الديمقراطية الجديدة في تونس، وقد طالب فيها الشعب بإعادة تعريف للسياسة الوطنية، وإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وانتخاب برلمان جديد تحتل فيه النساء ما يقارب 31% من مقاعد النواب، وتشكيل هيئة الحقيقة والكرامة في سنة 2014، للتحقيق في ما ارتُكبت من انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان في عهد النظام السابق، وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في بداية 2016، وهذا مثال نادر يعبر عن المشاركة الجماعية في الشؤون العمومية، بعد كل هذا لا تزال الدولة الغنائمية قائمة الذات في تونس، ولم يتم استبدالها.

عائق بنيوي
من يتجرأ على خوض الحرب على الفساد في تونس يصطدم بطبيعة الدولة الغنائمية، أو الدولة النيوباتريمونيالية، امتداداً وتكويراً للدولة الباتريمونيالية البطريكية تحت مسمى الأبوية التي جاء بها ماكس فيبر. ومصطلح النيوباتريمونيالي، وترجمته العربية الإرثية المحدثة (بحسب اقتراح أحمد بيضون)، هو تحديث للمصطلح الفيبري، مع تكييف مضامينه. ليست التقاليد مصدر الشرعية في النظام النيوباتريمونيالي، ولا يرث الحاكم الحكم بالضرورة. كما أن الدولة وجهازها يعملان في إطار قانوني شكلي أقله. وقد استخدم هذا المفهوم ماكس فيبر في تحليل النظم السياسية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، لكن استخدامه في تحليل النظم السياسية والدولة في البلدان العربية بقي محدودًا ومحصورًا في الأوساط الأكاديمية، ولم يشق طريقه فعليًا إلى الاستخدام الواسع في الأدبيات السياسية، لا من التيارات السياسية ولا الصحافة ولا نشطاء المجتمع المدني. وتمثل الدولة الغنائمية في تونس حالة خاصة من الدولة الإرثية المحدثة (النيوباتريمونيالية)، وهي شبه معمّمة في المنطقة العربية، وتتميز بحالةٍ متقدمة من الاستحواذ على الدولة والحيز العام وغياب الديمقراطية، وانتشار الرشوة، الزمرية، القبلية، الجهوية، الزبونية، المحسوبية، الربوبية، الكاهنية، الفساد، الافتراس والعصبوية، سواء كانت قائمة على التبادل الاجتماعي أو التبادل الاقتصادي.
يتعلق مفهوم الفساد من المنظور السياسي بطبيعة الدولة الغنائمية التي أدت السياسات الاجتماعية – الاقتصادية التي قادتها النخب السياسية التي حكمت تونس، منذ ستة عقود، إلى ظهور طبقة جديدة مضطلعة بقيادة القطاع العام، وتتكون أساسًا من قيادات الحزب الحاكم (التجمع الدستوري سابقا المنحل منذ مارس/ آذار 2011)، وكبار رجال الدولة مدنيين وأمنيين، ودخلت هذه الطبقة في حلفٍ مع القطاع الخاص (رجال الأعمال الأثرياء) من أجل تحقيق الأرباح، شريطة أن يتخلى هؤلاء عن دورهم السياسي، ويلتزمون توجيهات الدولة.
وفي غياب مؤسسات سياسية فاعلة تزاول الرقابة والمحاسبة، وانحصار السياسة في دائرة السلطة/ الدولة، بعد إلغاء السياسة فاعلية مجتمعية حية واعية وهادفة وحرّة، تفشى الفساد داخل الأجهزة الحزبية، وأجهزة الدولة عموماً، وتفاقم مع تصاعد التسلسل الهرمي السياسي، بدءاً من الموظفين المحليين، ومدراء القطاع العام، وصولا إلى الوزراء، ومن بعد إلى رئيس الدولة. وازدادت حدّة الفساد في ظل الدولة الغنائمية التونسية، عندما لجأ أصحاب المناصب الرفيعة والعليا في النظام السابق إلى استغلال مناصبهم، لتحقيق مكاسب مادية. وتحول هؤلاء، مع الوقت، إلى رجال أعمال فاسدين أو شركاء تجاريين إلى جانب وظائفهم الحكومية، يصرفون جل اهتمامهم إلى البحث عن طرق وأساليب تمكّنهم من زيادة حجم ثرواتهم على حساب الاهتمام ببرامج التنمية وتحقيق الرفاه والرضا لمواطني بلدانهم.
وعلى الرغم من انتخاب برلمان جديد، ورئيس جمهورية جديد، في مرحلة الانتقال الديمقراطي المتعثر الذي شهدته تونس، فإن الفساد والجهوية، ومظاهر "الإثراء من المناصب" السياسية
والإدارية و"المحسوبية" و"السمسرة"، أصبحت تنخر الإدارة والطبقة السياسية الحاكمة في تونس (الأحزاب، البرلمان..)، وأن عموم المواطنين التونسيين أصبحوا يعتبرون أجهزة الدولة "مافيوزية"، فرجال الأعمال الفاسدين هم الذين موّلوا الحملة الانتخابية لأحزابٍ سياسية وصلت إلى الحكم بعد انتخابات 2014، وهم الذين باتوا يحركون خيوط اللعبة في الكواليس، للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية. وأصبحوا يؤثّرون مباشرة في تعيين الوزراء وكتاب الدولة وكوادر الإدارة المركزية والجهوية والمحلية، بما في ذلك الجمارك، وقوات الأمن الداخلي، و لاسيما بعد أن أصبح البرلمان التونسي المنتخب خاضعاً لتوجهات منظمة الأعراف، وتحول إلى "مركز التقاء الشبكات الزبائنية"، وبات نوابٌ عديدون "مختصين في السمسرة وترقية الأعمال"، ويدافعون عن النموذج الاقتصادي والمنوال التنموي الرأسمالي الليبرالي الذي سارت عليه تونس خلال العقود الخمسة الأخيرة، ما قبل ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، والذي قاد إلى زيادة إفقار الطبقات والفئات الشعبية، والطبقة المتوسطة، وتنمية معدلات البطالة بصورة كبيرة، ورهن البلاد للمؤسسات الدولية المانحة.
والحال هذه، وفي ظل غياب مشروع وطني ديمقراطي للرئيس الباجي قائد السبسي، أصبحت الدولة الغنائمية التونسية مسرحًا لصراع استقطابي تنافسي بين رجال الأعمال الأثرياء في عهد النظام السابق الذين ينتمون، في معظمهم، إلى منطقة الساحل والمركز (العاصمة تونس) من ناحية، ورجال الأعمال الأثرياء الجدد، القادمين من المناطق المحرومة تاريخيًا، وهم "بارونات الاقتصاد الموازي وخصوصا التهريب" في المناطق الداخلية، من ناحية أخرى، فقد راكم هؤلاء الأثرياء الجدد الذين اشتغلوا بالتهريب في المناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر، بعد الثورة، ثروات طائلة بمليارات الدولارات، وأصبحت لديهم طموحات سلطوية، مثل التي يحظى بها رجال الأعمال الفاسدون الذين ينتمون إلى "عصبية الساحل" و"النخبة البلدية" المنحدرة من برجوازية تونس العاصمة، والذين يرفضون إقامة مشاريع تنموية في المناطق الداخلية، حتى لا تؤثر على مشاريعهم ومصالحهم. وهذا ما دفع الأثرياء الجدد في المناطق الداخلية إلى "مساندة" الاحتجاجات العنيفة ضد السلطة المركزية في تلك المناطق.

من منظور المجتمع المدني
هناك إجماع لدى مكونات المجتمع المدني في تونس على أن الحرب على الفساد التي دخلها رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، أخيرا، أعادت الأمل إلى التونسيين في إنقاذ بلدهم من "غول" الفساد الذي انتشر بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حيث لم يسبق لأيٍّ من رؤساء حكومات ما بعد الثورة أن نال ثقةً شعبيةً واسعةً في ما يتعلق بملف الفساد كالتي حصدها الشاهد أخيرا. وترى مكونات المجتمع المدني أن الإرهاب والتهريب والفساد تشكل منظومة كاملة ومتكاملة، أسهمت في استشراء الفساد والإثراء غير المشروع، وأحدثت، في السنوات القلية الماضية، حالة من الاحتقان الاجتماعي والشعور بالغضب الشعبي. ومن الطبيعي أن الشروع في تفكيك هذه المنظومة أخيرا خفف نسبيا من هذا الشعور العام السائد لدى الشعب.
وعلى الرغم من أن مؤشرات الفساد حافظت منذ الثورة على وتيرة تصاعدية، فإن الحكومات المتعاقبة في تونس لم تجرؤ على مواجهة آفة الفساد، بل لاذت بـ "الصمت السياسي" على
استشراء الفساد، وتحول هذا الصمت" إلى نوع من التواطؤ مع كل تلك "الشبهات" التي باتت تحوم حول شخصياتٍ سياسية متنفذة، إضافة إلى ارتباط نوابٍ عديدين برجال أعمال فاسدين، فالحرب على الفساد تقتضي أن يكون للحكومة استراتيجية وطنية في الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، تقوم على إشراك المواطنين والمجتمع المدني والإعلام والقطاع الخاص في صياغة هذه الاستراتيجية الوطنية وتنفيذها، وعلى وضع حدّ لثقافة الفساد، وعدم قبول الفساد الصغير، لأنه يسمح بوجود الفساد الكبير.
ومن المفيد، في هذا السياق، أن تعتمد الحكومة التونسية، في إطار الحرب على الفساد، على تركيز منظومة ديمقراطية تسمح بالمحاسبة والمراقبة المتنوعة على العمل الحكومي. ويلعب المجتمع المدني، بمؤسساته الرقابية والجمعيات غير الحكومية، دور الرقيب على مؤسسات الدولة، حتى لا تعود إلى الممارسات السابقة.. هنالك رغبة لدى فئات مختلفة من المجتمع في التغيير وعدم العودة إلى الوراء.. وما دامت الحرب على الفساد تبدأ بطي ملف الماضي، على حكومة يوسف الشاهد أن تبادر إلى الكشف عن رؤوس الأموال ورجال الأعمال الفاسدين من نظام بن علي، وكشف ممارساتهم، ومحاسبتهم أمام العدالة، من أجل الحدّ من انتشار الفساد السابق، واسترداد الأموال المنهوبة من الداخل ومن الخارج.
تتطلب الحرب على الفساد إرادة سياسية وطنية وقوية من الحكومة، تعمل على تطوير الثقافة الشعبية المناهضة للفساد، بالإضافة إلى إقرار القوانين المتعلقة بهيئة الحوكمة الرشيدة، ومكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية، ولا سيما النظر في مشروع قانون يتعلق بالتصريح بالمكاسب ومكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح في القطاع العام. ويجب أن تكون هذه الإرادة السياسية مقترنةً بوجود إرادة شعبية، لعدم الإفلات من العقاب، حتى لا يتم تمرير قانون المصالحة الغالي على قلب الرئيس الباجي قائد السبسي، فعدم الإفلات من العقاب يجب أن يكون هدف الحكومة، ومكونات المجتمع المدني، ومختلف فئات الشعب التي تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، وتربط بين مقاومة الفساد ومحاربة التهريب والاحتكار والتهرب الجبائي باعتبارها ظواهر مترابطة تتغذى بعضها ببعض، وتشكل ركائز منظومة الفساد.
E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة