حلم ليلة عيد

حلم ليلة عيد

28 يونيو 2017
+ الخط -
لم يطو سجل ذكرياتي حلما ساذجا بعيدا، عشته طوال أيام شهر رمضان ما مضى من عمري، فقد كانت أمي، رحمها الله، تحتفظ بالملابس التي لا نرتديها في رفٍّ علوي من (الخوان) الضخم الذي يضم ملابسنا أولاداً وبناتاً، ولم يكن مسموحا لنا أن نقترب بأيدينا العابثة من هذا الرفّ الذي كان مرتباً إلى درجة أن تطلق صفيراً طويلاً من فمك، لهول تنسيقه الدقيق، فالملابس مرصوصةٌ فوق بعضها، فلا كمٌّ يتدلى ولا حزام. والألوان المتشابهة تجاورت حتى كادت تبدو قطعةً واحدة، أما نوع الأقمشة فقد تجاذب مع بعضه بعضاً، كما يجذب المغناطيس برادة الحديد.
وكان رمضان الأول لصيام شقيقتي الكبرى، وقد قرّر والداي أن تصوم على سبيل التجربة، وكنا نسرح ونمرح أمامها، ونحن نأكل ما تيسر، لأن أمي لم تكن تقدّم لنا وجباتٍ ذات قيمة، وتعلق وهي تدسّ في يد أحدنا شطيرةً بائسةً، أو ثمرة صغيرة، أن الصغار يضيعون في رمضان. وهكذا كنا نتقافز أمام أختي، في الصيف الحار، ونحن نقضم، بأسناننا المتفرقة، حبات الخيار، ولكن هذه الحبات كانت بالنسبة لها ثروة في أيام صيامها الأولى، حتى تفتق ذهنها عن طريقةٍ لكي تعذّبنا من خلالها كما تتعذّب، مع أن أوداجها كانت تنتفخ، حين يبلغ جدّنا أنها انضمت إلى كوكبة الصائمين الكبار في العائلة.
بدأت تحدّثنا، في ساعات الظهيرة، عن بلوزة زرقاء ترقد بين الملابس على الرفّ المحرم، وكنت أراها من بعيد، حين تفتح أمي الخوان. ولأني كنت مغرمةً باللون الأزرق، فقد تمنيت كثيراً أن تفرج أمي عنها، وتحرّرها من بين الملابس الممنوعة، وتسمح لنا بارتدائها، وكنا وقتها نرتدي ملابس متشابهةً في البيت، فالبنت ترتدي بلوزة وبنطالاً قصير الساقين (شورتا) مثل الولد، فلا أحد يرانا بملابس البيت، لأننا في المساء نرتدي مناماتنا المتشابهة اللون، والتي خاطتها أمي، وحين نخرج نصبح آنساتٍ صغيراتٍ بفساتين منفوشة، ويصبح إخوتي رجالاً صغاراً ببذلات وربطات عنق.
أسرّت لنا أختي، وعيناها السوداوان تلتمعان، بأن هناك رسماً مطرّزاً لدراجة صغيرة مرسومة على صدر البلوزة. وبمجرّد أن يرتدي صاحب الحظ هذه البلوزة، تنقلب إلى آلةٍ عجيبةٍ رهيبةٍ تنتقل بصاحبها من عالمٍ إلى عالم، ومن مكانٍ إلى مكان. وأصدقكم القول إنني وقتها لم أكن قد سمعت أو قرأت عن آلة الزمن ضمن ما احتوى الخيال العلمي في الكتب والسينما. وكذلك أختي، لكنها أسهبت في وصف هذه الدراجة العجيبة، حتى بت كل ليلةٍ أتخيل نفسي في عالم مختلف، وفي عصر مزدهر، وأحياناً في عوالم موحشةٍ تعج بوحوش كاسرة، لكني لا أبالي، وأنا أطير فوق الدراجة العجيبة.
ساومتنا أختي بأن نخفي خبر إفطارها عن والدينا، في مقابل أن تسمح لكل واحدٍ منا أن يرتدي البلوزة، حين تنتهي الإجازة الصيفية، وتعود أمي إلى عملها، ونصبح أحراراً في البيت، نستطيع أن نفتح كل الأدراج، ونعتلي كل الرفوف.. وهكذا كانت أختي تأكل خلسةً، وتلوك العلكة خلسةً، بل إننا كنا نطير إلى الدكان البعيد عن بيتنا ونبتاع لها الجيلاتي الملونة المثلجة، ونحرسها، وهي تلعقها في الحمام، وكنا ندفع ثمن ما نشتريه لها من علكٍ وحلوى وجيلاتي من مصروفنا، فيما تدّخر هي مصروفها. وهكذا جاءت ليلة العيد، ولم نكن قد ادّخرنا قرشاً، لكي نمرح ونسرح بين المراجيح خلال أيام العيد، حتى حدثت المفاجأة.
ففي صباح يوم العيد، وبعد حلم جميل، حيث رأيت نفسي في عصر هارون الرشيد، والدراجة تنقلني بين جنبات قصوره الواسعة، استيقظت لأجد أمي تفرغ الرف المحرّم في حقيبة كبيرة، وتطلب مني أن أحملها إلى جارتنا، معلنة أن الملابس التي كانت في هذا الرف ضاقت علينا جميعاً، فانتزعت من بينها البلوزة الزرقاء، وفردتها بين يدي، لأكتشف أن صدرها خاوٍ من الرسوم كرأس صلعاء. والآن، لا تسألوني عن آثار الأسنان العميقة القديمة في ركبة أختى الكبرى.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.