عن تيسير النجار

عن تيسير النجار

26 يونيو 2017

تيسير النجار.. صحافي أعزل سريع الانفعال

+ الخط -
لطالما قلت له: يا رجل، نحن أخوة وزملاء، يكفي رسميات. أرجوك (بلاها) كلمة ست، صدّقني لا داعي لها. غير أن تيسير النجار ظلّ مصرّا عليها، وفي كل مناسبةٍ ثقافيةٍ جمعتنا، كان يبادرني بالتحية، قائلا بصوتٍ خفيضٍ لا يخلو من ودٍّ ودماثة: كيفك ست بسمة؟ يقولها تهذيبا وإصرارا على احترامٍ للمسافة والخصوصية التي يُحاول آخرون اختراقها بصفاقةٍ وانعدام حساسيةٍ، وبدون استئذان، أو حتى سابق معرفه.
ظلّ تيسير النجار مختلفا. رجل يمكن وصفه أنه (بحاله كافي خيره شره). لا يمكن الادّعاء أنه حظي بشعبية كبيرة، على الرغم من بساطته ومباشرته وطيبة قلبه، وربما بسببها. ثمّة عزلة في شخصيته، جعلته يبدو متباعدا لم ينتم يوما إلى شلة أو مجموعة، ولم ينحسب على أحدٍ سوى عائلته الصغيرة التي أحبها، وتعلق بها، واستغنى بها عن طلب ود الآخرين. احتفل، كما لا يفعل معظم الرجال، بمنجز زوجته التشكيلية، ماجدة الحوراني، وشجّعها وساعدها في إقامة المعارض. لم يتمتع يوما بمهارات التواصل والتقنيات المركّبة المعقدة اللازمة لتكوين شبكةٍ منيعةٍ من العلاقات العامة التي تتطلبها طبيعة المهنة. ولم يتقن اللعب على التناقضات، ولا اغتنام ما حيث تهب الرياح إليه، وهذا ما أتقنه وانتفع به زملاء مهنة كثيرون، جابوا أصقاع الدنيا في درجة رجال الأعمال، مستمتعين بالمزايا والمنافع والدعم، وتقلدوا المناصب، وحصدوا الجوائز والمكافآت والهدايا الثمينة. لم يكن مسنودا مثل هؤلاء، بل مجرد صحافي أعزل سريع الانفعال، لعله كان أكثر عاطفية واندفاعا وتسرعا في التعبير بعفوية، من دون التفكير في العواقب.
لم يحقق أي شهرة، وإلا لقامت الدنيا غضبا، بسبب حكايته التي تدخل في نطاق الفانتازيا، لشدة غرابتها ولا معقوليتها. أحذرك، عزيزي القارئ، من حالة الصدمة، حال تتبعٍ بسيط للتواريخ المتعلقة في التهمة الموجهة له، وهي الإساءة لدولة الإمارات. والقصة الفانتازية لمن لا يعرفها، أو لمن لا يريد أن يعرفها من باب التقية والنأي بالذات، أن تيسيراً كتب منشوراً على صفحته في "فيسبوك" في صيف عام 2014، ينتقد موقف الإمارات في أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة. لاحظ وركّز جيدا، صديقي القارئ، انتقد، لم يشتم، لم يحرّض أو يدع إلى ثورة، لم يسرق بنوكا، لم يتاجر بممنوعات، لم يقتل، ولم يتطاول على مقامات عليا. مجرد منشور عابر لمواطن عربي عاطفي، المفروض ألا يعني شيئا في حسابات الدول. انتقد معبّرا عن رأيه غير الملزم لأحد.
بعد مضي عام، وكان الموضوع قد بات في طي النسيان، على الأقل بالنسبة لتيسير. وحين جاءته فرصة للعمل في الخليج، وهذا حلم أي صحافي في الأردن، يعيش وطأة الهم المعيشي الكبير، ذهب إلى حيث أمل التحقق والأمان الوظيفي والاستقرار المادي، ليتم القبض عليه في عام 2015، في قاعة المغادرين في المطار، وهو يهم بالسفر إلى عائلته التي كانت تنتظره بشوق في عمّان، ويُلقى في السجن طويلا من دون محاكمة، أو توجيه تهمة محدّدة، إلى أن تمت محاكمته وإدانته، أخيرا، ومن دون وجه حق.
لن يتأخر تيسير طويلا في سجن الوثبة الصحراوي، لأنه، كما أعلم، أمضى معظم مدة المحكومية قبل أن يمثل أمام أي محكمة. وبدلا عن تعويضه وعائلته عن الأذى والضرر الجسدي والنفسي والمعنوي الكبير الذي لحق به، يطالبونه بغرامة تعجيزية تصل إلى 100 ألف دينار أردني. سيعود إلى صغاره الذين قضوا جل أيام طفولتهم، متشبثين بطرف ثوب والدتهم، معتصمين أمام أبواب السفارات والنقابات والوزارات المغلقة دونهم. سيعود تيسير مليئا بالسخط والغضب والحزن والأسى والشعور بالخذلان والظلم. تماما كما عادت فيروز، حين أدت شخصية لولو في مسرحيةٍ حرّة، بعد حبس طويل، عقوبةً لجريمة مختلقة، ثبت أنها لم ترتكبها، لتؤدي رائعتها أغنية عذبة حزينة، عن الدنيا التي تصيّف وتشتي في أثناء غيابها، وعن شمسٍ وهمية، ترسمها على الحيطان التماسا لدفء مفقود. ولتتساءل بحرقة ومرارة: أنسى، كيف؟!
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.