في أجواء الخلاف الخليجي

في أجواء الخلاف الخليجي

25 يونيو 2017
+ الخط -
شكلت دول مجلس التعاون الخليجي آخر فرصة لإعادة إحياء النظام العربي، أو على الأقل إبقاءه على قيد الحياة. صحيحٌ أنه لم يعد أحد في البلاد العربية يأمل بنظام عربي قوي، يعيد توازن القوى للمنطقة، ويدفع المهانة عن الشعوب العربية. أصبح ذلك الأمر في قناعة الشعوب العربية ومدركاتها شيئا من الماضي. لكن، على الأقل المحافظة على فكرة العروبة والنظام العربي، إلى أن يأتي وقتٌ تتغير فيه المعطيات، ويمكن تحسين الواقع والطموحات.
ليس من المبالغة القول إن النظام الإقليمي العربي بدأ بالانكشاف التام، ودخول مرحلة الموات، منذ تدمير العراق وإخراجه من حسابات الفعل العربي. لم يحصل هذا الأمر بسبب خسارة قوة العراق وحسب، بل أيضاً لأن دمار العراق أوجد ديناميكية معقدة من التحديات التي ستضرب النظام العربي من جميع أطرافه. وعدا عن الأزمات الداخلية التي ستظهر ارتدادات لزلزال العراق، ستظهر جملة من التحديات الإقليمية، فيما بدا أنه استجابة لمتغيرات الجغرافيا السياسية، والاستحقاقات التي ترتبها، نظرا إلى وقوع العراق على خطوط الصدع الاستراتيجي بين العرب وجيرانهم.
كانت السنوات التي عاشها النظام العربي، بعد الحرب العراقية، مرحلة تقطيع للوقت، بانتظار 
حصول متغير أو متغيراتٍ تحمل معها ما هو غير متوقع، ولأن العقل السياسي العربي الحاكم كان يراهن، على الدوام، على أن التغيير سيأتي من الخارج. لم يخطر ببال مستشاري الأنظمة أن الشعوب المشطوبة من الحسابات السياسية ستحمل مفاجأة. صحيح أن الربيع العربي قتلته ثورة مضادة، قادتها بقايا الأنظمة، لكن أيضاً هذا التصادم أخرج الأنظمة من ساحة الفعل، وجعلها تقبض على دول فاشلة، دول أصبحت تتكون من جغرافياتٍ ساقطة في خضم الفوضى، وسلطاتٍ ليست غير شرعية فقط، بل ومتورطة في الجريمة بكل أشكالها، وشعوب سلبية ستجد في الثورة الصامتة بديلاً للتعبير عن غضبها، بعد أن أغلقت الثورات المضادة كل أبواب التعبير وإمكانيات التغيير. وبذلك، أصبحت أكثر البلاد العربية مجرّد كياناتٍ في مأوى العجزة، تحتاج من يخدمها ويتدبر أوضاعها (مصر)، أو من يدير شؤونها (العراق وسورية)، في حين أن دولاً أخرى تقيم على حافة الخطر، وتتعامل بنزق وانفعال، في إدارة أزماتها وعلاقاتها مع مجتمعاتها ومع الخارج.
في ظل هذه الأوضاع، شكلت دول الخليج بارقة الأمل الباقية في وسط عالم عربي، يتداعى من جميع أركانه، فقد راهنت شرائح عربية كثيرة على عناصر القوة المالية والدبلوماسة التي تمتلكها دول الخليج، وإمكانية توظيفها في تشكيل رأس قوة عربية، تحفظ ما تبقى في ظل عاصفةٍ عاتيةٍ، أسقطت أعمدة البيت العربي، وجعلت ساكنيه في العراء.
زاد من جدية هذا الرهان ظهور خطابٍ سياسي خليجي جدي، ومدرك للمخاطر، ومقدر للمتغيرات السياسية الجارفة. ظهر هذا الخطاب في المنابر والمنظمات الإقليمية والدولية، مدعوما بنشاط دبلوماسيٍّ داعم للقضايا العربية. ومع أن التنسيق بين الأطراف الخليجية بدا ضعيفاً، وظهر أن كل طرفٍ يقوم بجهود ذاتية، أكثر منها جهودا منسقة، وفي إطار تصورات ورؤى متضاربة في أحيان كثيرة، ما زاد تكاليف تحركاتها وانخفاض الجدوى. على الرغم من ذلك، ظل هناك بصيص أمل بإمكانية التغيير، وذلك قبل انفجار الأزمة الخليجية.
مع الخلاف الخليجي، ستخسر القضايا العربية تلك الطاقة التي كانت تبذلها الرياض والدوحة وأبوظبي، وسيجري التركيز على قضايا الصراع البينية التي من المقدّر أن تستهلك الزخم الدبلوماسي لهذه الأطراف، كما أن درجةً من الاستقطاب ستحصل داخل أطر التحالفات التي شكلتها هذه الأطراف لدعم مواقفها، بما يشي بتغير خريطة التحالفات التي تم تشكيلها في سنوات سابقة.
وليس متوقّعاً أن تقف الأمور عند هذا الحد، بل من المقدّر أن تتدحرج الخلافات إلى ما هو
أبعد. الصراع بالوكالة من خلال الجهات التي تدعمها الأطراف الخليجية، وخصوصا في سورية وفلسطين والعراق واليمن، وربما على مساحةٍ أوسع، تشمل ليبيا ومصر، وسيتم إضعاف موقف الأردن الذي تحوّل في السنوات السابقة إلى جبهة متقدمة، سواء للتفاوض مع إسرائيل بشأن القضية الفلسطينية وإبقاء مرجعيتها عربية، أو في مواجهة امتداد النفوذ الإيراني، ووقف مشروع التخريب الذي تقوده طهران في جغرافية المشرق العربي.
مقابل ذلك، ستقوى المشاريع الإقليمية الطامحة إلى تحقيق مزيد من المكاسب على حساب العرب، وستتعامل أطراف هذه المشاريع مع المتغيرات بوصفها فرصا، وأن عدم استثمارها قد ينتج عنها مخاطر. ولن تنتظر الأطراف الإقليمية العرب حتى يحلّوا مشكلاتهم. هناك حالة فراغ ستتولّد نتيجة انسحاب دول الخليج من ساحاتٍ كثيرة، أو جرّاء ضعف فعالية أدوارها، وستشكّل هذه الحالة الواقع الوحيد القابل للتعاطي معه بواقعية سياسية.
ليس صعباً قراءة التأثير الناتج عن تراكب التراجع الخليجي، والانكفاء إلى الصراعات البينية مع عطالة النظام الإقليمي العربي، وخروج أغلب كياناته عن الفعالية، في ظل وجود أطراف إقليمية (إسرائيل، إيران، تركيا، إثيوبيا)، واعية لمشاريعها، وتبحث عن فرص لكسب مزيدٍ من الأسهم في بورصة مكاسبها.
ليست هذه سيناريوهات متخيلة، بل هي تداعياتٌ، بدأ بعضها بالظهور. وفي انتظار تشكّل أخرى، في حال استمر الخلاف والتصعيد بين أطراف النزاع الخليجي.
مع الخلاف الخليجي، وتزامناً مع خروج القوى العربية الأخرى عن الفعالية، يفقد النظام العربي قاطرته، كما يفقد محركاته ومحفزاته للحفاظ على الحد الأدنى من التفاعل والحضور العربيين. وعلينا ألا نتوقع أن تكافئنا البيئات الدولية والإقليمية بما لا نتوقعه، فنحن من يداه أوكتا وفوه نفخ، والنار لن تحرق سوانا.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".