تقوية الحشد الشعبي وإضعاف العراق

تقوية الحشد الشعبي وإضعاف العراق

24 يونيو 2017
+ الخط -
في زيارة له أخيراً (الثلاثاء 20 يونيو/ حزيران الجاري) من جملة زياراتٍ دورية ومتعاقبة إلى طهران، وعلى وقع الهزيمة التي يُمنى بها تنظيم داعش في الموصل على يد الجيش العراقي، استمع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، من مضيفه المرجع والمرشد علي خامنئي إلى توجيهٍ مفعم بالتحذير من اتخاذ أي إجراء بحق المليشيات الطائفية (الشيعية)، وخصوصاً التي تنضوي في "الحشد الشعبي"، لأن "داعش" قد يهدّد بغداد لاحقاً.. وقد بات هذا الحشد يتبع للعبادي مباشرة، بصفته رئيساً للحكومة وقائداً عاماً للقوات المسلحة. وقد حافظ أعضاء المليشيات وقادتها وفق هذه الصيغة على وضعهم التنظيمي، وعلى الارتباط بقياداتهم نفسها، كما حافظت مليشيات الحشد على عقيدتها العسكرية الخاصة بها تنظيماتٍ طائفية. وكان المرجع علي السيستاني، وهو آية من آيات الاعتدال الوطني في العراق، قد دعا أهل العراق، عقب استيلاء "داعش" على الموصل بطريقةٍ مريبةٍ إبان عهد نوري المالكي، إلى التطوع والانخراط لمواجهة خطر "داعش". وهي دعوة جرى تكييفها لإسباغ شرعيةٍ على مليشيات قائمة، ولتبرير إنشاء مليشيات جديدة صافية طائفياً، بغير الاختلاط والتنوع الذي يتصف به شعب العراق، مع إقامة علاقاتٍ وثقى مع الحرس الثوري الإيراني، وبالذات قائد فيلق القدس، قاسم سليماني.
ويستوقف المرء أن المرجع خامنئي لم يدعُ ضيفه إلى تعزيز القدرات الدفاعية والقوى الأمنية لبلاده بصورة عامة، كما جرت العادة في المخاطبة بين قادة الدول، ولم يتطرّق إلى القوات 
المسلحة، وهي عماد الدفاع الوطني وركيزته الأساس في كل بلد، ولكنه خصّ مليشيات الحشد دون سواها، بتوجيهه التحذيري الداعي إلى عدم إضعافها، وذلك وفقاً لنبوءة المضيف بأن "داعش" سوف ينتقل من الموصل شمال البلاد إلى العاصمة بغداد. وواقع الحال أن هذه الدعوة تستبق أي دعوةٍ إلى حل الحشد ومليشياته، بعد انتفاء السبب المعلن لتشكيله، وهو مكافحة "داعش". وفي وقتٍ يشهد فيه التنظيم الإرهابي تقهقراً متزايداً يشي بانهياره في غضون أسابيع، ما يهيئ وضعاً جديداً في بلاد الرافديْن لمعالجة أزمة النازحين، وضمان عودتهم الى مناطقهم، وإعادة البناء، وخصوصاً في الموصل، وتعزيز الوحدة الوطنية، وتقوية القوات المسلحة لحماية الحدود والسلم الأهلي داخل البلاد، والتحقيق في المخالفات الجسيمة التي تطرّقت لها منظماتٌ دوليةٌ موثوقة، مثل منظمة العفو الدولية (أمنستي) ومنظمة هيومن رايتس ووتش، والتي طاولت المدنيين، وهي مخالفات ارتكبها، في الأساس، التنظيم الإرهابي، إضافة إلى جهاتٍ أخرى، لم تكتم عداءها للمدنيين، وسعيها إلى الانتقام منهم على ما لم يقترفوه.
وبهذا، فإن الدعوات إلى عدم إضعاف مليشيات الحشد، بعد الانتصار على "داعش"، لا تعدو أن تكون محاولةً للاستثمار في الظرف الطارئ الذي ظهر فيه "داعش"، مع محاولة إدامته، والتهويل من مخاطر غير مرئية، من أجل الإبقاء على ازدواجية السلاح، ومن أجل منازعة القوات المسلحة على حيازة السلاح الشرعي، وعلى استخدام القوة. وهو أمرٌ يعيد استنساخ تجربة حزب الله في لبنان، الذي واصل الاحتفاظ بسلاحه، بعد تحرير الجنوب اللبناني، وتحول من منظمة مقاومة إلى منظمةٍ تمارس السياسة الداخلية مستقوية، بسلاحها الذي ترفض التخلي عنه، كما تحوّل الحزب إلى منظمة عابرة للحدود اللبنانية، كما تشهد على ذلك العلاقة مع الحوثيين الانقلابيين في اليمن، ومساندة نظام دمشق في حربه على شعبه، وحتى إقامة وجودٍ متشعبٍ في العراق لهذا الحزب، من وراء ظهر شعب العراق.
وعلى هذا النحو، تطمئن طهران إلى أن أذرعتها من مليشياتٍ محليةٍ، تضمن لها استمرار النفوذ والتغلغل في مفاصل الدول والمجتمعات، وتسهم في إعادة الهندسة الاجتماعية، بما يكفل التغليب الطائفي والتقيد بالأجندة الإيرانية، وهو ما يشكل مساساً متمادياً بالنسيج الاجتماعي وبالوحدة الوطنية، ويسلب القرار الوطني استقلاله في اليمن، كما في العراق وسورية ولبنان. وهو ما يجري تعريفه بالتدخلات الإيرانية الفظّة التي تشكو منها شعوب المنطقة ودولها، بعد أن عاينت مظاهر هذه التدخلات ونتائجها المدمرة. ومن الواضح أن القائمين على هذه التدخلات ليسوا في وارد إعادة النظر في سياستهم الاستكبارية هذه، وحيث تخوض مليشيات الحشد معركةً على الحدود السورية العراقية، من أجل تأمين ممر بري يضمن لقوات الحرس الثوري حرية الانتقال براً من إيران إلى العراق، ومن العراق إلى سورية، ومن سورية إلى لبنان. وصولاً إلى موانئ المتوسط والحدود السورية الأردنية. وتجري التغطية على هذه التحرّكات التي مضى عليها أكثر من عقد بوابلٍ من الشعارات بمحاربة أميركا! وكأن هذه الأوطان ليست مُلكاً لشعوبها، بل تعود مُلكيتها لأميركا. ومن ذلك ما تحدّث به المرجع خامنئي لضيفه العبادي بضرورة عدم الثقة بأميركا، وعدم الإفساح في المجال لأيّ وجود لها في العراق.
حسناً. إذا كان المقصود أن يتمتع العراق بسيادته واستقلاله، بعيداً عن النفوذ الأجنبي الأميركي 
أو أي نفوذ آخر، فذلك مما يدعو إلى الترحيب به والثناء عليه، فقد آن للعراق أن يستعيد قراره الوطني المستقل، وسيادته على أرضه وحدوده. على أن الدعوة إلى رفض النفوذ الخارجي تستثني إيران نفسها! بما يضع بلاد الرافدين أمام خيار التخلي عن سيادته واستقلاله، وهو ينوء تحت محبة إيرانية توسعية، تخلط متعمدةً ما هو ديني بما هو سياسي وعسكري. يُشار في هذا المعرض.. معرض الحديث عن إدامة مليشيات الحشد الشعبي، أنه في خضم التحضيرات للانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في العراق في بحر العام المقبل 2018، فإن قوىً سياسية، في مقدمتها رئيس ائتلاف دولة القانون رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، تستعد لإدخال المليشيات في المعترك الانتخابي وبصفتها المليشياوية هذه، بحيث تتحوّل هذه المجموعات إلى أحزاب سياسية مسلحة (تنفرد دون غيرها من الأحزاب والقوى السياسية بحيازة السلاح واستخدامه)، وبما يسبغ عليها شرعيةً برلمانية وقانونية، وبحيث يصبح للعراق جيوشٌ بدل جيش واحد، وتقوم فيه دولٌ بدل الدولة الوطنية الواحدة، كياناً قانونياً سيادياً يستظل الجميع بمظلته ومرجعيته. وسبق للمليشيات الطائفية أن خاضت الانتخابات البرلمانية السابقة في العام 2014 تحت حراب السلاح، وانتزعت، كما هو متوقع، مقاعد ووزارات عديدة. محتفظةً، في الوقت نفسه، بكياناتها المليشياوية المستقلة عن الدولة. والجديد، هذه المرة، أن ارتباطها الشكلي برئيس الوزراء يتيح لها التمتع بتمويلٍ كامل من الدولة.. وبهذا، فإن الدولة العراقية الجديدة تدفع من جيبها كلفة الخروج عليها، وهو أمرٌ لا نظير له في الدول المستقلة.