في المُتاجَرَةِ بالدِّينِ وتسويغ الظلم

في المُتاجَرَةِ بالدِّينِ وتسويغ الظلم

23 يونيو 2017
+ الخط -
إن صحّ أن تَسْييسَ الفضاء الديني، أو تَأمِيمَهُ، مثلبتان، فإنهما لا شيء مقارنة مع انتهاك قداسة الدين، والمُتاجَرَةِ به، وتبرير القمع والعدوان باسمه. وللتوضيح، فإن انتهاك قداسة الدين المَعْنِيَةِ هنا لا تحيل إلى المحرّمات والكبائر الحِسِّيَةِ، كالزنا وشرب الخمر.. إلخ، بل إن المقصود بها الإساءة للدين، بمحاولة تطويعه بشكل رخيص، لتسويغ كل مُسْتَقْذَرٍ ومنكر في سياق قضايا الأمة الكبرى. مناسبة هذا الكلام دخول هيئات رسمية "دينية"، كمؤسسة الأزهر في مصر، وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى شخصيات توصف بـأنها "دُعاةِ" على خط تصعيد المَكْرِ بقطر، ومحاولة حصارها وإخضاعها من بعض أشقائها في العروبة والإسلام، لعلها تشاركهم في فعل السيئات. يزعم أولئك جميعهم العلم ومخافة الله، بل إن منهم من يَتَصَنَّعُ البكاء في برامج مصوّرة تلفزيونيا. ومع ذلك، لم تَرَ واحدا فيهم يقف أمام النص القرآني العظيم المُحَذِّرِ من الدفاع عن الظلم والظالم والمرافعة عنهما: "وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا" (النساء: 5).
من يفتون بحصار قطر اليوم ومعاقبتها وَيُهَوِّشُون ويحرّضون عليها هم أنفسهم من أفتوا بالأمس بمشروعية الانقلاب في مصر، وسوّغوا سفك الدماء المعصومة، بل وَحَضُّوا على ذلك. "اضرب في المليان"، كما نقل عن مفتي مصر السابق، علي جمعة، في تبريره سفك الدماء في ميدان رابعة العدوية في صيف عام 2013. إنهم أنفسهم الذين تَخْرَسُ ألسنتهم، وَتَتَبَدَّدُ أصواتهم عندما يعتدى على سيادة هذه الأمة وأعراضها ودمائها، كما في فلسطين والعراق، وهم أنفسهم، "الشياطين الخُرُسُ"، كما يصفهم بعض السلف، وذلك كنايةً عن الساكتين عن الحق، المتغاضين عن المظالم والفساد، طمعا برضى السلطان وعطفه وكرمه.
ابتليت هذه الأمة منذ صدر الإسلام الأول بـ"علماء" جور، قدّموا مخافة السلطان أو الطمع في ما عنده عاجلا، على مخافة الله أو الطمع في ما وعده آجلا. باعوا الناس "فضائل" الصبر
على الظلم والظالم في هذه الدنيا، بذريعة تأمين آخرتهم، في حين سوّغوا لأنفسهم خداع البسطاء بذريعة المصلحة الخاصة التي جعلوها عامة! جاء في الحديث الشريف: "إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (رواه الترمذي وغيره). ولكن أين كثير من "علماء" اليوم من هذا المعنى؟ أَوَرَّثَ الأنبياء المداهنة في الدين والعدل والظلم؟ أَجَعَلَ الأنبياء من الدين أفيوناً تفنى به الشعوب ظلما وقهرا من أجل تحقيق مصالح خاصة بهم؟ بعض "علماء" الجور لو كان عندهم نقطة دم واحدة في وجوههم، لوقفوا خاشعين مهطعي رؤوسهم أمام هذه الآية الكريمة: "وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 42). ولكن، هيهات هيهات.. إنما هم يلبسون الحق بالباطل إرضاء للسلطان وخشية من سطوته.. فعذاب الله في فهمهم، كما يقول عبد الرحمن الكواكبي، رحمه الله، آجل، أما عذاب الطاغية فعاجل. ماذا كان عليهم لو عَضُّوا على ألسنتهم بدل قول الزور؟ سيقول قائل: بعضهم مرغم. والجواب: إذن، ألم يكن من الأفضل أن لا يبيعوا علينا مراجل حين لا نحتاجها؟ هل نحن بحاجةٍ إليهم يَبُحونَ أصواتهم بتذكيرنا بمواقف العِزِّ من العلماء، كأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام، في حين أنهم يسقطون أمام مواقفهم في أول امتحان؟ للأسف، كثيرون ممن يوصفون بأنهم "علماء" و"دعاة" أُشْتُروا بالمال والجاه، مقابل سكوتهم عن كل المنكرات التي يرتكبها الكُبَراء. تجدهم أغنى الناس بأجورٍ خيالية، ولا تنقطع عنهم العطايا التي أفسدتهم، فصار بعضهم ممن يشتري بآيات الله ثمنا قليلا. وبعد ذلك، نسأل عن أزمة هذه الأمة. إني أضع "علماء" و"دعاة" بين قوسين، ذلك أن في نماذج هؤلاء امتهانا (من المهانة) لشرف العلم والدعوة.
إن عجبت اليوم، فالعجب أن تعجب من الدرك الأسفل الذي يمكن أن يصل إليه متاجرون بالدين. وإن عجبت، فالعجب أن تعجب من القاع السحيق الذي يمكن أن ينحدر إليه كثيرون من "الدعاة الجدد"، أو تجار الشنط والهندام والعطور. هؤلاء لحوم مسمومة، لا لأنهم علماء، بل لأنهم فاسدون بذواتهم وفكرهم وأهدافهم. سمومهم ذاتية لا مكتسبة. وأخطر ما في الأمر أن فينا سمّاعين لهم، مصفقين لزيفهم، مؤمنين بصلاحهم. سواء أكان خرج هذا النَشازُ ضد هذه الأمة وقضاياها ومصالحها من متباكٍ يَتَرَزَّقُ بالقرآن، أم من "داعِيَةٍ" مُمَثِّلٍ دَعِيّ علم، فإنه يبقى
نشازا. متى نتخلص من عقدة احترام المُسْتَرْزِقينَ بالقرآن لا يجاوز تراقيهم؟ متى نتخلص من خداع مهرّجين يزعمون "الإسلام الموديرن"، في حين أن الحداثة لا ترقى في فهمهم إلى حرية الإنسان وكرامته وحقوقه في مواجهة الكبت والطغيان؟ إنهم الرؤوس الجهّال الذين حذّر منهم الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام.. إنهم الفاسدون.. والأخطر أن فينا عقولا ضحلةً، لا زالت تؤمن أن فيهم خيرا.
ليست السطور السابقة دفاعا عن قطر، على الرغم من أنها تستحق الدفاع عنها والوقوف معها في مَظْلَمَتِها اليوم، ولكنها دفاع عن قداسة الدين، من حيث إنه دين لا يَحْتَمِلُ إلا قيما سامية. هل يعقل أن يتحول منبر الحرم المَكِّيُ الأشرف والأقدس، رمز وحدة هذه الأمة وقبلتها، وبيت الله الأول على الأرض، إلى مِبْضَعٍ يمزق جسد هذه الأمة البالي والمتداعي؟ هل يعقل أن تسلم إسرائيل من غضبة خطيبه ووعيده لتحل بدلا من ذلك على قطر؟ وبأي منطقٍ تتفرغ هيئة كبار العلماء في السعودية لتوجيه سهامها إلى "الإخوان المسلمين"، بزعم طلبهم الحكم، والحياد عن العقيدة الصحيحة، في حين لا يَرَوْنَ العيدان في عيونهم وعيون من يجادلون عنهم؟ كيف يبرّرون سكوتهم عن تحالف دولهم مع إسرائيل، ويؤيدونها، ولو ضمنياً، في تشنيعها على حركة حماس مثلاً؟ وهل يقبل الله من "أئمة" و"خطباء" و"دعاة" و"علماء" انتفخت كروشهم وَغَلَت ثيابهم، لا يركبون إلا الفارِهَ من المركبات، ولا يسكنون إلا القصور يجاورون الظالمين.. هل يقبل منهم اعتذارهم ومنافحتهم عن الظالمين سارقي عَرَقِ الشعوب وثرواتها؟
نعم، الخطاب الديني بحاجةٍ إلى تحريرٍ من كثير من المَوْروثَيِّنِ الثَّقافِيِّ والعُرْفِيِّ المُتَخَلِّفَيْنِ، كما أنه بحاجة إلى تحرير من قبضة السلطان، يَطَوِّعُهُ كيف يشاء، ولكنه قبل ذلك بحاجةٍ إلى تحريره من "علماء" و"دعاة"، يَسْتَرْزقون منه بدوس كل قيمةٍ جاء ليعليها أو يَضَعَها، كالعدل والظلم. وصدق الله: "لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ" (النساء: 114).