ليست شعبويةً بل ميل شعبي

ليست شعبويةً بل ميل شعبي

22 يونيو 2017
+ الخط -
كان الانتباه مركّزاً، خلال السنة الأخيرة، على صعود الشعبوية، الظاهرة التي تجلت في انسحاب إنكلترا من الاتحاد الأوروبي، ونجاح دونالد ترامب رئيسا في أميركا، وصعود مارين لوبان في فرنسا، وظهور تجمعاتٍ يمينيةٍ متطرفة، وحيث كلها تميل إلى توافق مع فلاديمير بوتين، الذي بدا كأنه ملهم لهذه الشعبوية. بمعنى أن ميلاً يمينياً "متطرّفاً" ينتصر بدعم شعبي، وهو يؤسس لوضع عالمي جديد، يندفع نحو الحدية في الصراعات، ويفتح على بناء تحالفاتٍ تهدم ما بني في النصف الثاني من القرن العشرين. ولا شك في أن الأزمة في الرأسمالية تفضي إلى نشوء الميل اليميني المتطرّف، أو تدفع فئات شعبية إلى دعم ميول يمينية متطرّفة.
لكن، علينا الآن أن نتحدّث عن أمر آخر، هو الذي يُظهر بروز ميلٍ شعبيٍّ إلى تجاوز ماضٍ ما. حيث يظهر واضحاً، وبعد الانتخابات الفرنسية خصوصاً، أن التيار الشعبي بات يميل إلى تجاوز كل الأحزاب التي تشكلت خلال القرن الماضي، وأنه بات ينتخب ما يعبّر عن شكلٍ جديدٍ للسياسة، ويطرح ما يقارب الوضع الشعبي. بالتالي، يمكن القول إن البنى السياسية القديمة باتت من الماضي، وأن الواقع يفرض تشكّل بنى جديدة. وهذا يعني أن الأزمة الاقتصادية باتت تنعكس على بنية الدولة، وعلى خيارات الشعوب التي ربما لم يتوضّح لها، إلى الآن، ما البديل الضروري، لكنها بدأت في البحث عن ذلك، وإنْ كانت بدأت في الشكل، أي شكل السلطة والنخبة التي تحكم من دون لمس الخيارات الاقتصادية، أو لمسها بمعنى يساري ما.
وإذا كان جرى التركيز على ظاهرة ترامب الذي أتى من خارج "الطبقة السياسية"، ورغماً عن الحزب الذي يقول إنه يمثله (الجمهوري)، فإن درس ما جرى في السنوات القليلة السابقة ربما يوضّح طبيعة الظاهرة أكثر، فقد اكتسح حزب سيريزا الانتخابات اليونانية، مهمشاً الحزبين القديمين اللذين كانا يتناوبان على حكم اليونان، وهو حزب جمع أشتات يسار، بعضه "تقليدي"، وبعضه فوضوي، أو نقابي، ولكن بعضه يسار حقيقي. وعلى الرغم من أن الحزب لم يفِ بوعوده التي نجح على أساسها، فقد نجح مرة أخرى بعد إعادة الانتخابات. كادت هذه الظاهرة أن تتكرّر في إسبانيا مع حركة بوديموس التي باتت قوة برلمانية على الرغم من طابعها الشبابي، وميلها اليساري. في أميركا، مثّل بيرني ساندرز هذا "الشطح" نحو اليسار، وحصل على دعم كبير في أوساط الحزب الديمقراطي، وربما جرى إبعاده عن السباق، على الرغم من أنه كان الأجدر. وكان واضحاً أنه يمكن أن يفوز على ترامب، أو ربما كان هو الوحيد الذي يمكنه أن يفوز على ترامب. انتقلت الظاهرة الى إنكلترا، وعلى الرغم من عدم فوزه بقيادة جيرمي كوبين، فقد حقق حزب العمال تقدماً كبيراً، ربما يرشّحه لأن يفوز في مرة قريبة، بعد أن أصبح اليمين ضعيفاً في الحكم. وأتت الانتخابات الفرنسية لكي تطيح الحزب الاشتراكي، وتُضعف الحزب اليميني، وتهمّش اليمين المتطرف (وكذلك اليسار المتطرف)، وتأتي برئيس وبرلمان من الشباب، والذي هو في الغالب ليس متمرّساً في السياسة. وربما نشهد ظواهر شعبوية مماثلة في الفترة المقبلة، فأزمة العالم تسير نحو تدمير ما بُني في العقود السابقة، ربما لفتح الأفق لمسار جديد.
ما يظهر واضحاً هنا، وبغض النظر عن ميول المنتصرين، يسارية أو يمينية أو وسطية، أن الوضع الشعبي، ونتيجة الأزمة الاقتصادية التي باتت تعاني منها حتى الدول الرأسمالية، بات معنياً بـ "تدمير" النظام القديم. لهذا، يميل إلى انتخاب أشخاص جدد، ومن الشباب في الغالب، حتى وهؤلاء لا يمتلكون خبرة سياسية، أو مشروعاً بديلاً. بالتالي، يمكن القول إن "النظام القديم" ينتهي، يترنّح، ويسير نحو حتفه. ولا شك في أن واقع الرأسمالية يُظهر أنها قد شاخت، بعد أن عاشت بما فيه الكفاية، وأن الشعوب تريد تغيير واقعها. ولهذا، دخلنا في مرحلة البحث عن البديل، البديل الذي يحقّق مطالب الشعوب، في عالمٍ استهلك القوى التي طرحت ذاتها بديلاً.