مُكالمةٌ هزَّت أركان الحَنِينْ

مُكالمةٌ هزَّت أركان الحَنِينْ

21 يونيو 2017
+ الخط -
تمتدُّ جذور صداقتنا إلى النَّشْأةِ الأولى، إلى الزَّمَنِ الذِي خَرْجنا فيه من الشَّرنقة، شَرنقةِ الطفولة.
على دُمية الباربي تشبُّ الحروب ويشتدُّ وطِيسُها ولا تُسلِّم واحدة للأخرى كأنَّنا للناظرين نتناحر.
على كرسيِّ الروضة كنَّا نتشاجر، وأمام باب المدرسة نتزاحم ونتدافع وفيما بيننا على الأخريات نتآمر.
شيئًا فشيئا، بدأتُ أفهمها وتسلَّلتْ لداخلي واسْتَقرَّتْ بين أحشائي، إن لم أكن أتحدثُ معها فأنا أُحدِّثُ النَّاس عنها، قُربُها ساعدني لأستمر بعد فقدان أمي، كانت الصاحبة في اليُتم. لم نفترق من كرسي الروضة حتَّى كرسي الثانوية كنَّا لصيقتين ببعضنا لمدة 14 سنة، بفصولها الحلوة والمُرَّة، المُحزِنة والمُبهِجة، المثلِجة والقاحلة.
بعد عتبة البكالوريا، وطِئتْ قدمانا الجامعة ذاتها، كانت رحلة الصداقة ستزيد لعُنفوانها ذكرياتنا الجامعيَّة. لكن، اتَّضَح أنَّنِي نجحتُ في اجتياز اختبارٍ للتَّمْريض وسأنتقل إلى جامعة أخرى. وهنا، بدأت اللُحمة بيننا تقلُّ، وبدأ يُتْمٌ جديدٌ في حياتي.
للمسافات وطأة على العلاقات، فربَّما البعيد عن العين حقاً بعيدٌ عن القلب. أجل، حتَّى وإن كان ذلك القلب بجوار قلبك مدة 14 سنة، فالقاعدة لم تستثننا أبد.
كُلَّما أتَتْنِي إلى جامعتي، اسْتَثَارَتْ حَنِينِي وبَدَأتْ دُموعي بالتَّوَافُدِ، زياراتها الكثيرة تُعبِّر عن فيضِ كأسِ الحنين، وكؤوس الحنين تمتَلأُ كلَّ حِينْ، إماَّ بذكرى سريعة مرَّت أو بشخصِ بعيدٍ هبَّت نسائمه مع قميصٍ يوسفيّ.
لكنَّني في المُقابل، كلَّما ألحَّت عليَّا أن أرافقها لجامعتها، أَحْنِي رأسي وأقول لها للمرة الألف، إنَّه أبي تعرفين، لا يُبيحُ لي ولا يسمح البتَّة. كانت خيبتها تستمر كلّما طأطأتُ رأسي، ورفضتُ الذّهاب إليها. لكنَّ العطاء من طرفٍ واحدٍ لم يستمر إلى الأبد وطالتهُ أنانيِّة النُّفوس، وربَّما تحريضاتٌ من البعيدات، من الرفيقات الجديدات. بدأتْ زياراتُها تقِلُّ وكذلك عدد مكالماتها، إلى أن شحَّت كلماتها، فلم أعد أسمعُ منها إلَّا أجل، نعم، حقا.. افتَقدْتُها وطالني الفراق، ولم أدر السبب، واحترقتْ أعصابي، وأصابها التلف من البحث عن مبرّرات ما حَدثْ، مِن مُحاولَتِي السَّبعِين في التماس عذرٍ لتصرفاتها اللامبالِية لتجاهلها غير المبرر.
ترَى رسائلي على "فيسبوك"، ولا ترد ولو بكلمة، تُغيِّر صفحتها باستمرار، ولا ترُدُّ على مكالماتي، وأخيرًا قَطَعَتْ علاقتَها بغيابٍ سحيقٍ جعلني دائمة التحدُّث عنها.
عام مضى، وأنا صامدة لم أستسلم، لم أتوقف عن إرسال التَّحيات والتساؤلات على حسابها في "فيسبوك"، لكنّها لم تعد موجودة، غابت النجمة الوحيدة عن سمائي.
ومن دون سابق إنذار، بدأتُ أشيخ، دخلتُ في اكتئاب، وأنشبتِ التساؤلات أنيابها بقلبي ومزَّقَتْنِي أيَّما مُمَزَّقٍ، خرجتُ من اكتئابي، وبدأتُ البحث عن أخبارها، أحوالها. لكني لم أجرؤ على التواصل معها فالقطيعة قاربتِ الثلاث سنوات.
اليوم، قررتُ والخوفُ يتآكلني أن أخطو خطوة لأقترب منها لعلِّي أفهم منها، أرسلتُ لها رسالة نصيَّة، ثمّ انتظرتُ ساعاتٍ. وبعد أن قَرَأتْهَا عاودت إرسال رسالةٍ (اتَّصلي بي)، لكنَّنِي اضطربتُ ولم أتَّصِل.
دقائقٌ وجاءني اتصالٌ، إنَّه منها، ارتَبَكْتُ وبَدَأتْ أنفاسي تزداد من الفرحة وارتفعت توقعاتي وقلتُ: سينتهي كلُّ ذلك وأخيرا سنعود.
مُكالمةٌ منها اختصرت ما آلَتْ إليهِ علاقتنا الخالدة، وضربت بسؤالها توقُعاتي عرض الغباء، قالت: من معي؟
كنت على الطرف الآخر مصدومةً، مصعوقة، و قلبي يخفق من الكلمة. استنتجتُ أنَّها محت رقمي من ذاكرة هاتفها، وقبله محتني أنا من ذاكرتها، صرتُ بالنسبة لها مجرد ذكرى فقط.
هي تجاوزتني لكنني عجزتُ عن تجاوزها، فقلتُ بخيبة، أنا صديقتك الغابرة؟
ـ عَرفَتْ نبرة صوتي فَصَمَتَتْ، سألتها: لو علمتٍ أنَّنِي أنا قبل أن تتصلِ، هل ستردين؟
قطعتِ الاتِّصال بعد أن ندبت قلبي بقولها: طبعًا لا.
العلاقات بعضها كالثَّلج أبيض، لكنَّه إذا ما ذاب لا يَرجِعْ.
AE7CAF6A-6536-4DED-973A-B1EB27C737D3
AE7CAF6A-6536-4DED-973A-B1EB27C737D3
سهيلة قواسمية (الجزائر)
سهيلة قواسمية (الجزائر)