الخطر الأكبر على أقباط مصر

الخطر الأكبر على أقباط مصر

03 يونيو 2017
+ الخط -
في مصر يمكن دائماً أن يتحوّل فعل عادي إلى مسار غير عادي. العادي هو إعلان دار الإفتاء المصرية إلغاء احتفالات هلال رمضان التي كانت ستنعقد في الليلة التالية لمذبحة الأقباط، أما غير العادي فهو أن يؤدي هذا الفعل البديهي إلى موجة غضب عارم عند مئات المعلقين على صفحة دار الإفتاء في موقع "فيسبوك".
كانت الغالبية العظمى من التعليقات تبدأ بتأكيد رفض قتل الضحايا، ولكن هذا لا يعني أن يتغير ما اعتدنا عليه بسببهم!
التفسير البسيط لهذا السلوك هو الطائفية الكامنة في المجتمع، لكن تفسيراً آخر يبدو أقرب إلى الدقة. يستخدم الباحث عمرو عبد الرحمن تعبير "شعور السيادة" في تفسير استياء قطاع واسع ضد المجاهرين بالإفطار في رمضان. ما يُجْرح هنا في الواقع ليس المشاعر الدينية، بل شعور السيادة الإسلامية على المجال العام، حتى لو كان الشخص ليس متديناً أصلاً.
المفهوم صالح للتعميم. يشعر الرافضون لإلغاء احتفال دار الإفتاء بجرح لمشاعر "السيادة" على الأقباط. دائماً ما كان الوعي الجمعي لفئات واسعة من المسلمين في مصر هو أننا نتفضّل على الأقباط بتركهم يعيشون في سلام. لا يريدون قتلهم أو طردهم، لكنهم يريدونهم دائماً شاكرين لهذه المنحة العظيمة، ودائماً مدركين لمن "السيد" في هذا البلد، بما يتبعه من عدم طرح أي مطالب بصورة نديّة. يظهر هذا حتى في خطاب الأجهزة الأمنية والرسمية أيضاً، كما حدث بكيفية التعامل مع قانون بناء الكنائس.
وبتعميمٍ أوسع، فإن شعور السيادة متعدّد الاتجاهات والفئات. يشعر الضباط والقضاة بالسيادة على عامة المواطنين، يستحيل أن تكون طرفاً بمشكلة مع أحد "السادة"، فتتوقع المعاملة نفسها من أجهزة الدولة. يشعر الأغنياء بالسيادة على الفقراء، ويشعر الرجال بالسيادة على المرأة، بل لدينا صورة للطور البدائي بسيادة البيض على السود، والتي تظهر في العنصرية المتفجرة في شوارع القاهرة ضد النوبيين أو الأفارقة من ذوي البشرة السوداء.
في كل هذه الصور، لا يشعر "السادة" إلا بأن الطبيعي والمنطقي أن تخضع الفئات الدنيا. وفي أحيان كثيرة، تكون الفئات الدنيا بدورها مقتنعةً بذلك، بما يستتبع خضوعها الكامل، كما تعيد ممارسة التقسيمات نفسها على فئات أخرى.
أخطر ما يواجه الأقباط، والمجتمع المصري كله، هو استبدال مفهوم المواطنة بمفهوم السيادة. لا ينظر أغلب المصريين إلى أنفسهم مواطنين، بما يستتبع ذلك من مساواةٍ بينهم، وبما يستتبعه من المطالبة بالحقوق من سادة الأمر الواقع أيضاً.
عبر سنوات طويلة، ظلت (المواطنة) مجرّد مفهوم نخبوي بعيد للغاية. لأغراض مفهومة، لم تقدمه السلطة أبداً للناس، لا يظهر في خطابات الرؤساء، لا يتم إبرازه في المدارس، في مقابل الاحتفاء بمصطلحات مثل "الاستقرار" ، "الأمن"، "العمل".
وعلى جانب آخر، دائماً ما تجاهله القطاع الأوسع من الإسلاميين، لأنه بطبيعته متناقض مع دول العصور الوسطى التي يستلهمون مفاهيمها. لا مواطنة مع "الجزية"، أو "لا ولاية لكافر على مؤمن"، أو مع دولةٍ تغلق المقاهي جبراً في رمضان، لأجل "عدم المجاهرة بمعصية"... إلخ. على سبيل المثال، كان من اللافت إعلان جماعة الإخوان المسلمين قبل الثورة ببرنامج حزبهم أنهم يرفضون تولّي المرأة والقبطي للرئاسة. لم يكن هذا سؤالاً مطروحاً، وكان الجميع يعلم أن نظام حسني مبارك لن يمنحهم حزباً أصلاً، لكن كانت هناك رغبة بتسجيل موقف رفض المواطنة مرجعية موحدة للمجتمع والدولة، على الرغم من أن البرنامج نفسه أشاد بها نظرياً.
أي تغيير حقيقي في مصر يستلزم نشر مفهوم المواطنة على المستوى المجتمعي، قبل الرسمي. نحتاج أن يدخل ثقافتنا الشعبية مفهوم "المواطن دافع الضرائب" الذي يتكرّر في أي خطاب انتخابي في الغرب. لا يدفع المواطنون الضرائب إجباراً من "السادة"، بل لأنهم اختاروا بإرادتهم مواطنين مثلهم، ليديروها بالنيابة عنهم. لا يعيد المواطنون إنتاج دوائر القهر على بعضهم، ويحاولون تضييق التقسيمات الدينية والاجتماعية والطبقية، لا إقرارها وترسيخها. فقط حينها لن يشعر مواطنٌ بجرح مشاعره، لأنه ألغى احتفالاً للتضامن مع مذبحةٍ تعرض لها أمثاله من المواطنين.