هل تنجح حملة القضاء على الإسلام السياسي؟

هل تنجح حملة القضاء على الإسلام السياسي؟

19 يونيو 2017
+ الخط -
أثارت الحملة على دولة قطر جملة من الأسئلة المتفرعة بشأن المخاوف الحقيقية للدول التي شنت الحملة، وما تخفيه من أغراض وراء الاتهام الذي لم يصدقه أحد بتمويل قطر مجموعات إرهابية. وجاء التعويم المقصود في التصنيفات الخليجية المتعددة، بين حركات ومجموعات إرهابية بالفعل، وأخرى لا علاقة لها بالإرهاب، بل بأي شكل من العنف، ليثير أسئلة موضوعية عن هذا التوجه، والقصد من وضع الجميع، أفرادا وجمعيات ومؤسسات، في خانة واحدة. وتلقّف مناهضو الحركات الإسلامية هذه الذريعة في عدد من الدول الإسلامية والعربية، وبدؤوا يمنّون النفس بثمارها المنتظرة، وأبرزها تضييق الخناق عليها من جديد، بدءا من إبعادها عن دائرة الحكم، وأجمعوا على أن الإدارة الأميركية الجديدة حسمت قرارها القضاء على ما يسمى الإسلام السياسي نهائيا. وعليه، ستتم تغييرات جوهرية في عدد من الدول، وسينتهي معها أمر "الإخوان المسلمين" نهائيا.
ويبدو أن الأمر لا يخلو من بعض هذه النيات أو الطموحات، فكثيرون يؤكدون أن الثلاثي الخليجي (السعودية والإمارات والبحرين بتفصيلات مختلفة) ومصر، يحاول أن يستهدف ما يمكن تسميته الإسلام المتحرّك سياسيا، وإعادته إلى المربع السابق للثورات العربية، وتجريده من أدوات الحكم والرصيد الشعبي الذي حصَّله في بعض التجارب العربية، في السنوات القليلة الماضية. ولكن هذا يستدعي إعادة عجلة تطور المسارات السياسية وتشابكها إلى الوراء، وهو أمرٌ صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلا. وهو ما يؤكده بوضوح وزير الخارجية الأميركي، ريكس تليرسون، الذي أشار إلى أن عددا من كبار قيادات الإخوان أصبحوا مسؤولين في حكومات بلدانهم، وأورد أمثلة نواب ووزراء في البحرين، وكذلك أعضاء في الحكومة التركية، وكان يمكن أن يضيف المغرب وتونس وغيرهما. واستنتج تيلرسون من ذلك أن تصنيف جماعة الإخوان المسلمين، تنظيما بأكمله، على لائحة الإرهاب سوف يضيف تعقيداتٍ لاحقا على هذه الحكومات. وأضاف "هؤلاء الأفراد يشجبون الإرهاب. لذا، فإن النظر إلى الإخوان منظمة واحدة ومتكاملة، وتصنيفهم بناء على ذلك سوف يعقد الأمور. بإمكاني القول لكم إننا نراقبهم، ونعيد النظر في هذه القضية على الدوام، لأن دولا أخرى تفتح هذا الموضوع معنا".

ويعكس هذا التوجه أسئلة استراتيجية كثيرة، تتعلق بنماذج مختلفة من تجارب الحكم، أو المشاركة في الحكم، في دولٍ عربية مختلفة، من حيث تركيباتها الاجتماعية أو تاريخ ممارساتها المدنية، أو حتى نموذج الدولة ومؤسساتها. وعلى الرغم من أن إسلاميين وجدوا أنفسهم بعد العام 2011 في مربع الحكم في هذه الدول قد ابتعدوا عن مدونات العنف والمقاربات المضادة للدولة، فإن هذا لم يشفع لهم في التصنيفات الخليجية، أخيرا، التي وضعتهم في السلة نفسها مع مجموعات إرهابية معروفة. ويكشف هذا الأمر أن المخاوف الحقيقية ليست إذاً من المجموعات المتشددة التي يُجمع الجميع على ضرورة محاربتها في كل مكان، وإنما تشمل أيضا وربما، في المقام الأول، قطع الطريق أمام كل علاقة ممكنة بين الإسلاميين والحكم، خصوصا إذا كُتب النجاح لبعض هذه التجارب، كما يحدث ولو مؤقتاً في التجربة التونسية أو المغربية. وترى دراسة لمعهد كارنيغي أن "استعدادات الأحزاب الإسلامية كانت هشّة في التعاطي مع الاستهلالات السياسية، بعد الانتفاضات العربية في 2011، لكن العديد منها تأقلم مع تبعاتها بطرق براغماتية ومتنّوعة". وأن "صعود جماعة الإخوان المسلمين وسقوطها في مصر كان أمرا فاقع الأهمية عبر المنطقة، لكن تجربتها لم تكن مقياساً معيارياً، بالمقارنة مع أحزابٍ إسلاميةٍ إقليمية أخرى". وتؤكد هذه الدراسات أن هذه "الأحزاب الإسلامية واصلت المشاركة بنجاح في الانتخابات الديمقراطية، على الرغم من الضغوط المحلية والإقليمية". وتحيل هذه الاستنتاجات إلى قدرة هذه الأحزاب المحسوبة على "التجمعات الأيديولوجية المتكلّسة" على التأقلم مع الظروف الجديدة التي طرأت عليها، على الرغم من أنها كانت مفاجئة وغير مستعدة لها، لا فكرياً ولا تنظيمياً، ومراجعة نفسها بسرعة فائقة، والدخول إلى اللعبة الديمقراطية، بكل تلويناتها ومقتضياتها.
وعلى الرغم من أن التجربتين، المغربية والتونسية، تختلفان في جزئياتٍ عديدة، إلا أنهما بيّنتا، بوضوح، أن الشعوب العربية تحمل قاعدة شعبية جاهزة لتجربة هذا النموذج، وهو ما حدث أيضا في ليبيا ومصر، وهو ما يشكل، بالتحديد، مخاوف من أن تكون التركيبات الشعبية العربية والإسلامية مماثلة في دولٍ أخرى، ما يستوجب توجيه القصف نحوها بكل قوة، قبل أن يستفحل الأمر.
ويتزايد حجم هذه المخاوف مع المراجعات التي تتم في بعض الحركات الاسلامية التي ربما تفطّنت بشكل مسبق لما يحدث اليوم، فسارعت إلى تأكيد أنها تميل إلى المدنية السياسية على حساب الأصل الأيديولوجي، عبر الفصل بين ما هو ديني دعوي وما هو سياسي، مثلما يحدث في المغرب أو في تونس بالذات.
وبقطع النظر عما إذا كان هذا التوجه مجرد واجهةٍ تكتيكية، تخفي الولاء نفسه للتنظيم الأيديولوجي، كما يؤكد منافسوها، حيث يعتبرون أن ما صرحت به حركة النهضة، في مؤتمرها العاشر في مايو/أيار 2017، ليس إلا مجرد تحسين واجهة في إطار الصراع على البقاء، فإن الأفضل، في كل الحالات، هو دعم هذا التوجه، ومرافقة الحركة إلى القطع الفعلي مع المنسوب الأيديولوجي، ومساعدتها على الاندماج الفعلي في العملية السياسية المدنية، لقطع الطريق أمام عودتها إلى ما كان عليه الوضع قبل الثورات العربية، وتحريرها نهائيا من التفكير العنيف، حيث لا يبدو الأمر بالسهولة المعلنة، إذ يؤكد قياديون من داخل "النهضة" أن هناك نوعا من الرفض في قواعدها لهذه الخيارات.

وعلى الرغم من ذلك، تذهب القيادات المؤمنة بضرورة التغيير في حركة النهضة إلى أبعد، حيث أصبح منظّرها ورئيسها، راشد الغنوشي، يؤكد على ما يسميه "الإسلام الديمقراطي". ويقول، في حوار صحافي، إن هذا الوصف جاء "للتمييز والتمايز عن الإسلام السياسي. المقصود بالإسلام السياسي الرؤية الشمولية للإسلام في مواجهة رؤى شمولية علمانية، والشمولية هي حالة غير ديمقراطية، كانت بلادنا تُحكم بشمولية الحزب الحاكم.. ولذلك كرد فعل ولدت شموليات أخرى، إسلامية ويسارية، وكان مشروعنا يضم سابقا كل المشروع الإسلامي بكل أجنحته وبكل فروعه، وأعتبر أن هذا انتهى مع الثورة، وولدت مرحلة جديدة، والثورة جاءت بالديمقراطية، بما لا يجعل هناك حاجة إلى هذه الشمولية".
ويرفع الغنوشي اللبس، ويؤكد "نريد بالإسلام الديمقراطي التمايز عن العنف، لأن الإسلام السياسي مصطلح أطلقه مستشرقون على العاملين في الحقل الإسلامي، ووصفهم بالمتعصبين والعنيفين. والإسلام السياسي يحتوي في داخله كل أنواع الاستراتيجيات التي تعلن عنها لخدمة الإسلام، ومن ذلك استراتيجية العنف، وأيضا نرى أن الإسلام الديمقراطي أن نكون جزءا من هذا العالم ونخاطبه بمفاهيمه ولغته وأدواته التي يؤمن بها". ويبدو أن هذه المراجعات وهذا التمشي قد يجدان لهما جمهورا عربيا أوسع، إذ يحملان، في الظاهر، إسلاما جديدا حداثيًّا ومدنيا قابلا للتأقلم والتطور، ما يمكن أن يقود إلى توسيع دائرة استقطابه وإشعاعه، ونجاحه في تجربة الحكم، إذا نجح خصوصا في تقاسمه مع مكونات مجتمعية أخرى، وعبر إلى ما بعد الاضطرابات الشعبية والاجتماعية، وبدأ في تحقيق وعود الثورات الأساسية.
ولعل هذا ما يجعل التجربة التونسية بالذات مستهدفة، فقد التقى الإسلاميون مع العلمانيين والليبراليين واليساريين، وكتبوا معا دستورا، ووضعوا مؤسساتٍ، وتأقلموا مع وضعيات حكم معقدة، ما يعني أن هذا النموذج قابل للتحقيق: بيت القصيد.
D8A6CEA0-1993-437F-8736-75AB58052F84
وليد التليلي
صحافي تونسي. مدير مكتب تونس في العربي الجديد.