عن ثقافة التسطيح

عن ثقافة التسطيح

18 يونيو 2017
+ الخط -
لعل المتتبع للواقع العربي المؤلم يلاحظ، بما لا يدع مجالا للشك، انتكاسات عميقة في مختلف الميادين والمجالات. ففي وقت يواصل فيه العقل الغربي البحث عن أسباب الرقي والتطور لشعوبه بما يضمن لهم الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية يواصل العقل العربي انكساراته المتتالية. فلا نحن استطعنا إنتاج العقل البرهاني ولا العقل البياني ولا العقل العرفـاني، كما تحدث عن ذلك مفكرون عرب كثيرون.
نجحت الأنظمة الشمولية في تجهيل شعوبها عن طريق احتكار سلطتي التعليم والإعلام، وتوجيههما وفق أهوائها وتوجهاتها المتناغمة مع إملاءات أطراف خارجية ووصفاتها. وفي هذا الصدد، يقول المفكر الأميركي، نعوم تشومسكي، إنّ من أهم استراتيجيات التحكم في الشعوب إلهاء انتباه العامة عن القضايا والتغييرات الاجتماعية المهمة التي تحدّدها النخب السياسية والاقتصادية، من خلال تصدير كم كبير من الإلهاءات والمعلومات التافهة، ومنعها من الاطلاع والمعرفة الأساسية بمختلف مجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس والعلوم البيولوجية. فضلاً على أنّه يجب أن ''تكون جودة التعليم المقدّم للطبقات الدّنيا، رديئة بشكلٍ يعمّق الفجوة بين تلك الطبقات والطبقات الراقية التي تمثل صفوة المجتمع، ويصبح من المستحيل على تلك الطبقات الدّنيا معرفة أسرار تلك الفجوة".
وتكون محصلة هذه السياسات الممنهجة مزيدا من تسطيح الفكر والتجهيل والتخلف على مختلف المستويات والأصعدة، وتفكيك البنى الاجتماعية بزرع بذور الفرقة والطائفية والتناحر بين أبناء الوطن الواحد. وبالتالي، تحويل الوطن إلى أشبه ما يكون بمعتقل استبدادي كبير، ميزته الأساسية الاعتقالات العشوائية، وتلفيق التهم المجانية والمحاكمات الصورية للمعارضين والصارخين في وجه الفساد والاستبداد من أبناء الشعب، التواقين إلى الحرية والانعتاق والعيش بكرامة.
لم تترك ثقافة التسطيح الفكري والثقافي مجالا إلا وغزته، كالفطريات التي تنتشر وتتكاثر بسرعة فائقة، حيث أصبحنا نراها في برامجنا التلفزية وفي حوارات مسؤولينا ومن يتدبرون أمر تدبير الشأن العام، وفيما تعرضه مواقع إلكترونية وصحف صفراء عديدة، وفيما يدلي به مثقفون ومحللون سياسيون واقتصاديون كثيرون، وكلّ من يطبّل ويزمر للسياسات الفاشلة .
خلاصة القول، لا يمكن محاربة ثقافة التسطيح من دون إحداث تغيير حقيقي في واقع منظومة التربية والتكوين، لتساير الواقع المعاش المتصف بالتغير والتطور المضطرد يوما بعد يوم. لأن الاستثمار في الرأسمال البشري وحده الكفيل بتحقيق مقومات التطور والازدهار وحجز مقعد مع الدول المتقدمة، ماعدا ذلك تصبح أوطاننا بلدانا سائرة في طريق التخلف، وينقلب السحر على الساحر.
C889CE5C-4284-433F-9F64-4EAE58CA3FFC
C889CE5C-4284-433F-9F64-4EAE58CA3FFC
عبد الفتاح عزاوي (المغرب)
عبد الفتاح عزاوي (المغرب)