هذا القانون الانتخابي في لبنان

هذا القانون الانتخابي في لبنان

16 يونيو 2017

في جلسة مجلس الوزراء اللبناني بقصر بعبدا (14/6/2017/حسين بيضون)

+ الخط -
أخيراً، وبعد مخاض عسير دام نحو ستة أشهر، أنجزت الحكومة اللبنانية قانوناً جديداً للانتخابات، يقوم على مبدأ التمثيل النسبي، بدل القديم الأكثري الذي ظل معتمداً أكثر من خمسين سنة. وتنفس اللبنانيون الصعداء، ليس حبا بالقانون الجديد، أو لأنهم ارتاحوا إلى عدالته وصحة التمثيل فيه، وإنما لأن جدال الطبقة السياسية ومناوشاتها ومناوراتها بشأن صيغ المشاريع كادت أن تحول البلد إلى ما يشبه "مصحاً عقلياً". ستة أشهر هي عمر الحكومة الجديدة التي يرأسها سعد الحريري، بعد انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية، أقرّت، في أولى جلساتها، صفقاتٍ تتعلق في مجال التنقيب عن النفط والغاز، ومن أجل تلزيم استجلاب الطاقة الكهربائية التي تحوم حولها الشبهات. بعدها، دخلت في نوعٍ من الغيبوبة، وتفرغت عمليا لتقطيع الوقت من شهر إلى آخر، لكي يتم استنفاد المهل الدستورية والقانونية، ومعها إطاحة الانتخابات.
لماذا؟ لأن الاتفاق الذي حمل عون إلى القصر الجمهوري، بموافقة الحريري وتأييده، كان شرطه عدم إجراء الانتخابات في موعدها، بغية فتح المجال أمام الأخير، لكي يعيد تنظيم صفوفه، واحتواء النزف في قواعده الشعبية، وتحديدا السنّية، وقد أصيبت بالإحباط جرّاء سياسة الحريري وتراجعه عن مواقفه السابقة، سواء في ما يخص تحالف 14 آذار الذي أطلق "انتفاضة الاستقلال" عام 2005، إثر اغتيال والده رفيق الحريري، وأدت إلى إخراج الجيش السوري من لبنان، والذي انفرط عقده منذ ما قبل انتخاب عون، أم لجهة التنازلات التي قدمها أمام حزب الله بتراجعه عن "الفيتو" الذي كان وضعه على السلاح غير الشرعي للحزب، وعلى المشاركة معه في حكومة واحدة، وهو اليوم يرأس حكومة يشارك فيها حزب الله. وقد أثارت هذه التراجعات، في الوقت عينه، حفيظة السعودية التي عملت على تصنيف حزب الله تنظيما إرهابيا، وأوقفت كل الهبات والمساعدات التي كانت قد أقرتها لدعم الجيش اللبناني وتسليحه. عدا عن أنها عملت على الانفتاح لأول مرة على شخصياتٍ سنيةٍ محسوبة على فريق 8 آذار في رسالةٍ واضحة إلى الحريري، فحواها "لم تعد وحدك من ندعمه أو نتكل عليه في لبنان"!
وقد أدت هذه التطورات إلى ما يشبه حصارا سياسيا وماليا، راح يعيشه الحريري، عشية عودته إلى لبنان، بعد غياب نحو خمس سنوات، وخصوصا التمرّد الذي واجهه في طرابلس ومحافظة
الشمال. وقد تصدّر هذا التمرد اللواء السابق والحريري الهوى، أشرف ريفي، الذي أوقع هزيمة نكراء بثلاث زعامات سنية طرابلسية مجتمعة (الحريري ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي) في انتخابات بلدية طرابلس. وراح التململ يتوسع في محافظة عكار في أقصى الشمال الغارقة في الحرمان، وفي البقاعين، الأوسط والغربي، حيث يكثر الوجود السني. وقد سعى الحريري إلى معالجة هذا النزف، عبر تمثيل عكار وطرابلس والبقاع الغربي في الحكومة الحالية بوزراء من نوابه.
كان الخوف، إذا، هو خسارة جزء لا يستهان به من المناصرين في الانتخابات المقبلة. لذلك، كان لا بد من تأجيل هذه الانتخابات إفساحا في المجال لالتقاط الأنفاس والعمل على إقرار بعض المشاريع الحيوية. وبالتالي، وضع قانون انتخابي جديد مريح يعيد صياغة التوازنات. وقد التقى هذا الهم مع ما يسعى إليه "التيار العوني" الذي يرفع شعار الإصلاح، ويريد قانوناً انتخابياً، يمكنه من ترجيح وزنه في البرلمان، بحجة "استعادة حقوق المسيحيين". الخصمان اللدودان تحولا إذا إلى حليفين، يجمعهما هاجس "الزعامة الأحادية" كل في طائفته، والذي لا بد أن يمر عبر تقاسم المصالح في الحكومة.
غير أن تأجيل الانتخابات والتمديد للمجلس الحالي كان يحتاج سبباً وجيهاً يمكن تسويقه شعبيا لاحتواء النقمة. فتصدّر رئيس التيار العوني ووزير الخارجية، جبران باسيل، المهمة، وراح يطرح مشاريع قوانين، الواحد تلو الآخر، بدأت بأكثرها تقوقعا، وينم عن فرز طائفي ومناطقي، مرورا بالمختلط الملطف الذي يقوم على الجمع بين النسبي والأكثري، انتهاء بالنسبية الكاملة التي أصر عليها حزب الله ورئيس المجلس النيابي، نبيه بري. عشرات المشاريع رماها باسيل في ساحة التداول والسجال خلال الأشهر الماضية، من دون أن تكون هذه من مهماته. لا بل هي، بحسب الدستور، من مهمة مجلس الوزراء الذي عليه أن يقر مشروع قانون، ويحيله على البرلمان، ليناقشه الأخير ويقرّه. ولكن الحريري التزم الصمت، تاركا لباسيل محاولة فرض شروطه والمساجلة مع الآخرين، وخصوصا بري ووليد جنبلاط. وتحول هذا الكباش اليومي إلى صراخ ومواجهة استعملت فيها كل "أنواع الأسلحة" التي خرجت، أحيانا، عن اللياقة في الكلام، وفضحت عنجهيةً وعنصريةً في خطاب "التيار العوني".
وراح الناس يراقبون، باشمئزار، هذا السجال العقيم المعروفة خلفياته، والذي يهدف، في النهاية، إلى التحايل عليهم بمشاريع تصب كلها، في نهاية المطاف، في إعادة التجديد للطبقة السياسية نفسها، طالما أنه ليس هناك من استعداد لإخراج البلد من المستنقع الطائفي والمذهبي، عبر تحرير مقاعد البرلمان من هذا التصنيف الذي تصر عليه أحزابٌ وتياراتٌ، يتخذ كل منها طائفته متراسا له. ولكن لدى الناس، بطبيعة الحال، أيضا اهتماماتها اليومية ومشكلاتها، وهمها في كسب حياتها وكيفية تأمين مستقبل أبنائها، وبالتالي تبقى مسألة دغدغة عواطفها، واللعب على غرائزها، وعلى مواطن ضعفها الطائفية والمذهبية والمناطقية سلاحاً فعالاً في أغلب الأوقات.
وعند استنفاد المهل التي كانت ستؤدي إلى وقوع المجلس النيابي في الفراغ الكامل، ما يستجر
معه شللا في عمل الحكومة والمؤسسات، سارع السياسيون إلى لملمة الفضيحة، والاتفاق خلال 48 ساعة، على قانون انتخابي تم تجميله بالنسبية، ولكنه يحتوي على كل البنود والتفاصيل التي تجعل منه نسخةً طبق الأصل عن القديم، من حيث نوعية التمثيل، وتقسيم الدوائر غير العادل وغير المتوازن، ولا تمثيل فيه للكوتا النسائية، علما أن هناك وزارة لشؤون المرأة في الحكومة، ولا خفض لسن الاقتراع إلى الثامنة عشرة عاما، و...، ففي مجلس يضم 128 نائبا، فإن النسبية تحرّر ربما بعض المقاعد، هنا وهناك، من قبضة التبعية الحزبية الضيقة والطائفية البغيضة.
والمفارقة الفاضحة أكثر هي أن معظم القوى السياسية، باستثناء العونيين، وصفت القانون الجديد بأنه "أسوأ الممكن". وإذا أمكن إقرار قانون في خلال 48 ساعة، فلماذا لم يتم إقراره قبل أشهر، لكي يتمكّن الناخبون من الاطلاع عليه وهضمه، إذا كان الهدف هو فعلا صحة التمثيل وعدالته.. إنه التمديد الذي كان مقرّرا سلفا، ولكنه كان يحتاج إلى إخراج.
وطالما أنه تم التمديد نحو سنة للمجلس، وحدّد موعد الانتخابات في مايو/ أيار 2018، فإن هذه الهدنة لن تطول، ليس أكثر من أشهر فصل الصيف، لتعود بعدها مسرحية السجال خلال الحملة الانتخابية، ولتستعمل مجدّدا كل أشكال التعبئة الطائفية والمذهبية لحشد الناخبين حول هذا الزعيم أو ذاك أو هذا التيار أو ذاك!
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.