جميعنا مَلْعوبٌ بنا لا لاعبين

جميعنا مَلْعوبٌ بنا لا لاعبين

16 يونيو 2017
+ الخط -
ما يجري في المنطقة العربية أكبر من مجرّد ثورات مضادة، وجنون منفلت من عقاله، بل ثَمَّةَ إزاحات وتحريك لأحجار كثيرة لضعضعة أسس البنيان العربي في أفق هدمه على رؤوس ساكنيه. لا ينحصر الأمر في التصعيد المجنون مع قطر، ومحاولة حصارها، كما أنه لم يبدأ بالثورات المضادة وانقلاب مصر عام 2013، بل تتكشف الخيوط تباعا أن أغلب الأحداث الكارثية تجري وفق لوغاريتمات محسوبة ومدروسة، مع ضرورة التأكيد على أن هذا لا يعني ضمان نجاح ما يستهدفه مُهَنْدِسوها، فالظواهر البشرية ليست علما صلبا. وبالتالي، لا يمكن إخضاع تداعياتها وارتداداتها إلى قواعد علمية، فيزيائية أو كيميائية أو رياضية.
إذا أخذت سلسلة من الإزاحات في المنطقة ضمن ناظم موضوعي، فإنك سترى أن أحجاراً تَرْكَبُ بعضها على بعض لتعطيك صورة أوضح لما يُخَطَطُ لنا، وما يجري في فضائنا، لتمزيقنا وشرذمتنا فوق مُمَزَّقِنا وَشَرْذَمَتِنا. لنبدأ من المشرق العربي، وهو الثقل الحضاري العربي الإسلامي. أكراد العراق (كردستان) يعلنون استفتاء على الاستقلال في شهر سبتمبر/أيلول المقبل، في حين يحث أكراد سورية الخطى نحو ذات هدف الانفصال عن القُطر السوري، بدعم أميركي غربي. وعلى الرغم من كل المحاولات التركية المستميتة لوأد حلم قيام "كردستان الكبرى"، فإن مساعيها تبدو كأنها تبوء بالفشل، وهو ما يهدّد وحدتها الإقليمية هي كذلك. ليست مصر، هي الأخرى، بعيدة عن الإزاحات وإعادة مَوْضَعَةِ الأحجار. برلمان الانقلابي، عبد الفتاح السيسي، يصوّت، طوعا، فيما قد يكون سابقة تاريخية لأي دولة ذات سيادة وتحترم وحدة أراضيها، بالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، على الرغم من أن القضاء كان أبطل الاتفاق من حيث الأساس. يحدث ذلك في حين تقوم مصر بتسعير نيران الثورة المضادة في ليبيا وتدمير البلد فوق دماره. يحدث الأمر نفسه في اليمن، أين أفلح "التحالف العربي" في سحق اليمن، وتدميره وَنَكْبِ شعبه، في حين ما زال عاجزا عن هزيمة الحوثيين وقوات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح. أما سورية، فقد أريد لها دوما أن تكون أتون النار الذي يأكل كل شيء، ويمتصّ أوكسجين الثورات في المنطقة، فلا الثورة انتصرت، هذا إن بقيت هناك ثورة، ولا نظام بشار اجْتُثَّ، ولا هو بقي حاكما ومسيطرا أيضا. ولو أردنا أن نمضي في تركيب الأحجار، لقلنا الكثير، ومن ذلك أن تونس، مهد الثورات العربية، تعبث بها أصابع العابثين من أنظمة الثورات العربية المضادة، وتحديدا في الخليج العربي، وقس على ذلك.
كل ما سبق يجري مترافقا مع إعلان الحرب على ما يسمى "الإسلام السياسي"، وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين، والخطوات الحثيثة العلنية للتقارب مع إسرائيل، على أساس أنها
حليف لدول "الاعتدال العربي السُنِّيَةِ" في حربها على "الأصولية الإسلامية" وإيران، كما يتبجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وإسرائيل ماضية، بموافقة أنظمة عربية، ودعم من إدارة دونالد ترامب، في تمييع القضية الفلسطينية، على أساس أن حلها يكون ضمن معادلة إقليمية، لا على أرضية بعض الحقوق الفلسطينية، ولا يستبعد أبدا أن قطاع غزة على موعد مع حربٍ قادمةٍ أكثر شراسة، ستكون بعض الأنظمة العربية شريكا علنيا فيها بذريعة الحرب على "الإسلام السياسي"، أو "الإرهاب"، فالهدف تصفية أي ممانعة لإعادة شرذمة المنطقة، أو ما قد يصفونه بإعادة ترتيب أوراقها.
"الإسلام السياسي" أو "الأصولية الإسلامية" مجرد واجهة لتفادي القول إن ما يجري هو حرب على روح الإسلام نفسه، من حيث أنه إيديولوجيا ممانعة ومقاومة أي استكبار أو ظلم أو احتلال. إنك تجد أكبر الدول العربية المحاربة ظاهرة الإسلام السياسي تبالغ في الاستثمار في "الإسلام الطقوسي"، وليس أوضح على ذلك من السعودية ومصر، وحتى الإمارات عبر دعمها تيارات صوفية وسلفية تميل إلى الخرافات أو التشدّد في المظاهر على حساب الروح والفاعلية والاحتجاج السياسي. ولا يمانع هذا المحور في "تَسْييسِ" الإسلام، إذا كان في خدمة السلطان لا الشعوب، وذلك كما في الفتاوى التي انتشرت بضرورة محاصرة قطر وعزلها، وهي فتاوى لم يسلم منها طُهْرُ البيت الحرام في مكة المكرمة نفسها! يريد ذلك المحور أن يجعل من الإسلام أداة إخضاع، ولكن روحه الحقيقية روح كرامة، ومن ثمَّ لا بد من وأد أي صوتٍ أو فكر يفهم الإسلام كذلك. هذا لا يعني دفاعا عن مدرسة الإخوان الفكرية، ففيها نواقص وعيوب كثيرة، ولكن الإنصاف يقتضي القول إن هذه المدرسة تَخْتَزِنُ روح التمرد على الظلم، عندما تتاح لها الفرصة، وهي قد أثبتت، عبر العصور، أنها رافعة لتحقيق ذلك في أجزاء كثيرة من الجسد العربي، عندما تحين الساعة، ومن ثَمَّ المطلوب سحقها، وقد رأينا محاولاتٍ كثيرة رامت ذلك في دول عربية، مع اختلاف في الوسائل، وتفاوت في الشراسة.
مع وصول ترامب إلى الرئاسة الأميركية، يشعر معسكر الثورات العربية المضادة أنه كسب
حليفا إلى جانبه في إطلاق حربٍ لا هوادة فيها على أي بواق لروح تغيير عربية. ترامب، وكما أثبتت ستة أشهر من حكمه، رجل مغرور، أرعن، قليل الخبرة، منعدم الكفاءة، يُشْتَرى بالاستثمارات والمال، والأهم أنه حاقد على الإسلام ويحيط نفسه بإيديولوجيين يرون أن الإسلام في حالة صراع وجودي مع الحضارة الغربية بمرجعيتها المسيحية - اليهودية، كما يقول ستيف بانون وستيفن ميلر وسبستيان غوركا، وهم أقرب مستشاريه. ومن ثَمَّ، لا عجب أن الحملة شنت على قطر أياما بعد قمة الرياض العربية الإسلامية - الأميركية، والتي خاطب فيها ترامب أكثر من خمسين زعيما عربيا ومسلما، وحضّهم على محاربة التطرف والإرهاب الإسلاميين. الفارق بين فريق مستشاري ترامب من الإيديولوجيين من ناحية، والخبراء البيروقراطيين الأميركيين في مجالات الأمن والدفاع والسياسة الخارجية من ناحية أخرى، أن أولئك، وعلى عكس هؤلاء، أو من يمكن وصفهم بالبراغماتيين، لا يرون فارقا بين تيار إسلامي "معتدل" وآخر "متطرّف"، كالإخوان المسلمين و"داعش" مثلا. مقاربة الأبيض أسود هذه هي ما كان يتمناه محور الرياض- أبوظبي- القاهرة، ولكن إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، رفضت أن تنساق معهم فيها.
يساير ترامب، اليوم، معسكر الثورات المضادة، في محاولة لخنق أي روح فاعلة ومتحرّرة في المنطقة، بل إنه يصب مزيدا من الزيت على نارها المستعرة، ورأينا ذلك في التناقض بين تصريحاته المؤلبة على قطر وتصريحات وزيري خارجيته ودفاعه، الحاثَّة على الهدوء. أيضا، نرى ذلك في نقل المعركة إلى إيران، كما حصل في الهجوم على مقر البرلمان وضريح الخميني في طهران قبل أقل من أسبوعين.
المنطقة مقبلة على مزيد من التصعيد، ومزيد من الانفجارات، فمحاولات الخنق هذه لن تمرّ من دون قلاقل وردود فعل. الأخطر من ذلك كله أن من يظن نفسه، من معسكر الثورات العربية المضادة، لاعبا في المنطقة العربية، هو ليس لاعبا حقيقيا، وإنما أداة يوظفها اللاعبون الكبار. وثمّة مثل أميركي يقول: "جلوسك على طاولة الطعام لا يجعل منك شريكا"، فأنت عمليا قد تكون مجرد طرف هامشي لا نِدّاً، أو حتى على قائمة الطعام الذي سيُلتهم، ولو بعد حين. لا أحد يتمنى أن تكون أيٌّ من دولنا على قائمة الافتراس القادمة، ولكن هذه هي الحقيقة المُرَّةِ، ومن لا زال يعيش حالة إنكار نذكّره أن السعودية نفسها على شاشات رادار كل المحرّضين على الإسلام وعلينا (ومنهم ترامب، مع أن المؤسسة الحاكمة المتشككة كذلك بالسعودية أكبر من ترامب، وأكبر من أن ترتهن لحماقة أي شخص وحساباته الشخصية أو الإيديولوجية، حتى ولو كان الرئيس نفسه)، وهجومهم عليها ودعواتهم إلى معاقبتها لم تتوقف يوما، فهي بالنسبة لهم مصنع الفكر "السلفي الجهادي" الذي أنتج "القاعدة" و"داعش"، فمتى نستفيق من غفوتنا من أجل مصلحتنا جميعا؟