العسكر.. هزيمة من غير ميدان

العسكر.. هزيمة من غير ميدان

16 يونيو 2017
+ الخط -
أشارت مقالتان سابقتان لصاحب هذه السطور إلى نفسية الهزيمة وذهنيتها حين تستمر وتستحكم، كان ذلك بمناسبة الحديث على مرور خمسين عاما على هزيمة يونيو/ حزيران 1967. والإشارة في هذه المقالة إلى أن الهزيمة قد تأتي بلا معركة، فإذا كانت هزيمة يونيو في ميدان معركة، فإن هزيمة يونيو الجديدة في العام 2017 بغير ميدان، تعبّر في حقيقة الأمر عن احتراف العسكر الهزائم، حينما يتخلون عن مجال وظيفتهم الأساسية في حماية الحدود والوجود.
بدا هؤلاء حينما يتخلون عن المهنية العسكرية، وينخرطون في مجال السياسة الذي لا يحسنونه، متحدثين فيها وفي سياق الساحات المدنية بلغة السلاح والمعسكر، يستأسدون على الشعب، ويمارسون كل ما من شأنه تكميم الأفواه، في رغبةٍ منهم أن يروا المجتمع في حالة عسكرةٍ، تفضي إلى أن تكون كل مساحات الدولة والمجتمع تحت أيديهم وسيطرتهم، في مجال حكمهم وتحكمهم.
فقد هؤلاء الذين ترعرعوا في كنف "كامب ديفيد" وفي أعمال البيزنس، وفي كنف المعونة الأميركية، كثيرا من مهنيتهم العسكرية، وحملوا من بعض ما حملوا تغيير العقيدة القتالية. ومع الانقلاب، لم يقف الأمر عند حدود تغيير العقيدة القتالية، بل وصل الأمر إلى انقلاب هذه العقيدة، رأسا على عقب، سواء في تحديد مفهوم العدو، أو في قلب مفهوم الأمن القومي، والذي برز في تأشيراتٍ خطيرة، يحاول هؤلاء أن يجعلوا هذا الجيش يقوم بأعمال خارج حدوده، وخارج إطار وظيفته الجوهرية والأساسية، ويتدخلون لحساباتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، إلا أن يفتعلوا مناطق عدم استقرار، أو يدعموا كل هؤلاء الذين يستبدون بشعوبهم ويقتلونهم في سورية وفي اليمن وفي ليبيا.
أعلن هؤلاء، ممثلين في المنقلب الجنرال السيسي، تفريطهم باستخفافٍ شديد في جزء من أرض هذا الوطن، يمثل قيمة استراتيجية يتنازل عنها للسعودية في الظاهر، وهذا يصبّ في مصلحة
صهيونية إسرائيلية، يقوم بذلك ضمن ما سميت صفقة القرن، ليشكل أقوى العلامات على حالة الخيانة، بعد تغيير العقيدة القتالية، وتغيير كل ما من شأنه أن يحافظ على الوطن وسلامة أراضيه، وفق أعراف الدول حينما تنافح عن سيادتها، ووفق قواعد الدساتير على تعدّدها، ووفق منطوق القسم الذي أقسموه على الحفاظ على الوطن وسلامة أراضيه، ووفق معطيات الجغرافيا والتاريخ، إلا أن هؤلاء في مغالطات فاضحة بدا لهم، متحكمين في الأمر، أن يتنازلوا عما شاءوا ومتى شاءوا.
بدا نظام الثالث من يوليو يقوم بكل ما من شأنه الاستخفاف بهذا الشعب وعرضه وأرضه، يحاول من كل طريق أن يعرض أرض مصر للبيع، ومارس كل أنواع التفريط، ووقف لكل من يقول "لا"، ويؤكد على مصرية هذه الأرض، رافعا السلاح في وجهه مروّعا ومخوّفا يحاول، من كل طريق، أن يفرض إرادته في التفريط، حتى لو كان الشعب يرفض ذلك. مارس ذلك كله بالتلاعب بكل المؤسسات، حكومة وقضاء وبرلمانا، مستخفا بأحكام القضاء، ممارسا أقصى بلطجته في فرض رأيه ورؤيته وتفريطه الذي يشكل عنوانا لدورٍ أكبر في متوالية تفريطٍ، ستأتي ضمن صفقة القرن المعلن عنها.
ومن عجبٍ أن هؤلاء الذين يقودون الجيش، والمنوط بهم حماية الأرض، هم المفرّطون وهم من يتولون ذلك، بدعاوى شتى زائفة، تقوم على ترويج متعمد للتاريخ والجغرافيا، ستكشف الأيام والسنين المقبلة، كيف أن هؤلاء قاموا بأعمال تزوير ممنهجة، وقدّموا خرائط مفبركة، واستخدموا أدواتهم من لواءات وعمداء داخل برلمانهم الزائف الذين اصطنعوه وفقا للمعايير المخابراتية والأمنية، إضافة إلى الخبراء من داعميهم، والذين دبجوا الكتب والمقالات والرسائل، وتصدّروا في وسائل الإعلام، لا لشيء إلا خوفا على مصالحهم، أو قلقا من جرائمهم، سترى اللواءات والعمداء السابقين، كلا منهم، في مباراة التنازل والسقوط الفاضح، حينما يعلنون أن أرض هذا الوطن ليست أرض مصر، وأنها لمصالحهم الدنيئة والأنانية يعتبرونها أرضا سعودية، يناجزون عن ذلك بكلام أخرق، يخرق القواعد ويستخف بالوثائق.
ومن هنا، يبدو أن هذه القيادات، ونظام الثالث من يوليو الانقلابي، باتت تصنع الهزيمة تلو الهزيمة، ضمن النفسية الانهزامية التي استحكمت في عقولهم وتصرفاتهم؛ فهل يمكن أن يمر ذلك بسلام؟ هل يمكن أن يترك هؤلاء يعبثون بأمن مصر، ويفرّطون في أرضها، ويشكلون المصالح على هواهم، خدمة لأغراضهم وتحالفاتهم ومصالحهم الآنية والأنانية؟ هل يترك هؤلاء ليشكلوا تحالفا مع العدو الصهيوني يطبعون معه؟ بينما يُحكمون الحصار على أرض غزة والمقاومة الفلسطينية، بل إنهم يلمزون من كل طريق هذه المقاومة بالإرهاب، ضمن طابور المتصهينة العرب الذي أحكم الحلقة، وصار يقوم بأخطر وأحقر دور في صفقة القرن، والتطبيع مع العدو، وافتعال العداوة لكل هؤلاء الذين يمثلون المقاومة في المنطقة، وحالا من الاستقلال والخروج على مسار الذيلية والتبعية.
هل يسمح لهؤلاء الذين يخونون الأرض والعرض أن يتحكّموا في مقاليد الأمور في إطار
التعبير عن مصالح لا تمت بصلةٍ لجوهر الأمن القومي المصري، حتى توضع سيناء على المائدة، ضمن صفقة القرن، تفرغ من أهلها وتفجّر منازلهم وتحاصر غزة، واستمع إلى طبول حربٍ تدق في الخفاء، حربٍ مفتعلة، تقوم بتمرير صفقة القرن بتصفية القضية الفلسطينية، وكل منابع المقاومة للاحتلال الغاصب. يسهم هؤلاء بسهمٍ وافر في تلك الخطة التي صارت عنوانا لكل خيانة لقضايا الوطن وأمنه القومي، والإسهام في عمليات التفكيك وإعادة التركيب للشرق الأوسط والمنطقة العربية.
وأمام ما يقوم به قادة الانقلاب من ممارسات، نوجه سؤالنا إلى الجيش المصري: هل تسمحون بخروج جزيرتي تيران وصنافير من السيادة المصرية، وقد سالت دماء جنود مصريين عليها ومن أجلها؟ هل تسمحون للتاريخ أن يُسجل أن جيش مصر تخلي عن وظيفته في حماية حدود الوطن وترابه، في سابقةٍ لم تحدث في تاريخ أية دولة، وفرّط في السيادة والأرض؟
أين قسمكم وأين شرفكم العسكري، وأين عقيدتكم القتالية؟ وهل تسمحون لهؤلاء بتمرير المشروع الصهيوني على حساب شرفكم وأرض وطنكم؟ إذا قبلتم بذلك، فاعلموا أن متوالية التنازل عن الأرض والعرض ستستمر، وستكونون شركاء في الجرم، وسيطاردكم عار الخيانة للأبد.
هل يسمح لهؤلاء، مع افتقادهم أي مهنية عسكرية، أن يمارسوا نفسية الهزيمة، المرة تلو المرة، ثم يفرضون أنفسهم على رقاب العباد والبلاد، يقتلون من شاءوا ويعتقلون من أرادوا، ويطاردون كل معارض. يستخفون بكل شيء حتى النفوس، ويستهينون بكل حرمة حتى الدماء. هذه المنظومة التي تمثل هذا الاستخفاف تشكل، في الوقت نفسه، حالة فشلٍ متراكم في إدارة شؤون البلاد في عمليات إفقار متعمدة، وترك حبل الأسعار ارتفاعا من دون ضابط، ولا رابط يستهدفون معاش الناس وأمنهم، بينما يتنعمون بأعمالهم وممارسة فسادهم.
يتغوّلون على كل شيء في الوطن من أراض ومصالح اقتصادية، وبات هؤلاء، مثل تجار أو إن شئت الدقة أشبه بعصابةٍ تجمع فيما بينها مصالح سياسية واقتصادية. هل يمكن ترك هؤلاء لتخريبٍ متعمد لهذا الوطن، في كل مقام ومجال، مدعين العصمة تارة، والتفوق والسمو تارة أخرى، وينظرون إلى من دونهم ضمن منظومة الأسياد والعبيد، فهل يمكن أن يستمر ذلك، ارحلوا غير مأسوف عليكم، فإن الوطن لا يحتمل التفريط في أرضه، أو التخريب في عمرانه، أو إزهاق روح إنسانه.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".