المغرب.. حين تَسقط ورقةُ التوت

المغرب.. حين تَسقط ورقةُ التوت

13 يونيو 2017

الحبيب المالكي.. تبرير الالتفاف على نتائج الانتخابات المغربية

+ الخط -
من مزايا الربيع العربي أنه كشف بؤس الخطاب الفكري والسياسي وضحالته لدى قطاع كبير من النخب العربية؛ مثقفين وإعلاميين وقادة أحزاب وناشطين، أثبتت الوقائع زيف ما يتشدّقون به بشأن الديمقراطية. حدث ذلك، بدايةً، مع الأزمة السورية، حين أعمى الانتماء الإيديولوجي بصيرة قوميين عرب كثيرين انحازوا إلى نظام الأسد، في هجمته الوحشية غير المسبوقة على شعبه المطالب بالحرية والديمقراطية والكرامة. بعد ذلك، جاء انقلاب العسكر في مصر على حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي في يوليو/تموز 2013، فانبرى كثيرون، في مصر وخارجها، لتعزيز صفوف قوى الثورة المضادة، وتبرير الانقلاب وتسويغه بذرائع بائسة، كشفت سقوطا فكريا وأخلاقيا وسياسيا مريعا. وتكرّر المشهد نفسه في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا قبل سنة، حين وجد فيها بعضهم فرصة سانحة للتشفي في حكومة رجب طيب أردوغان، قبل أن تنقلب الأمور، ويفشل الانقلاب، ويعود الوضع إلى ما كان عليه.
مناسبة هذا الكلام ما جادت به، قبل أيام، قريحة الحبيب المالكي، أحد قيادات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ورئيس مجلس النواب المغربي، حين اعتبر أن ''قرار مشاركة حزبه في الحكومة التي يرأسها حزب العدالة والتنمية الإسلامي جاء نتيجة قراءة جريئة للواقع وتحليل للمرحلة الحالية''، مؤكدا أن الغاية من هذه المشاركة ''تطويرُ المؤسسات وتقويةُ بناء المسار الديمقراطي، وبناءُ دولة الحق والقانون بوتيرة أسرع''، كما رأى أن تحالف الاتحاد مع الإسلاميين ''ينبني على البرنامج، وليس على الإيديولوجيا والخط السياسي''، وما من شأنه ''أن يساعد في الاستمرارية وتجديد الفكر الاشتراكي وتنمية حاجيات المواطنين''.
ولم يفت المالكي الذي كان يتحدث في افتتاح المؤتمر العاشر لحزبه، التأكيد أن ''الأحزاب والقوى الاشتراكية والديمقراطية لا ينبغي لها أن تترك المجال لقوى محافظة باسم الديمقراطية لتتحكم في تدبير الشأن العام باسم نتائج الانتخابات''، مبرزا أن الديمقراطية ''أكبر من نتائج الانتخابات، ولا يجب أن تُختزل فقط في هذه النتائج''، قبل أن يدعو إلى تجديد الفكر الاشتراكي الديمقراطي ومساءلته انطلاقا من الواقع اليومي.

يصبّ ما قاله المالكي عن الديمقراطية والانتخابات والتحالفات السياسية في تبريرٍ سخيفٍ للالتفاف الذي جرى على نتائج انتخابات 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي التي فاز فيها الإسلاميون. ولا ندري ما هي الأدبيات التي استقى منها فكرة أن قوى اليسار ''الديمقراطية'' يجب ألا تترك المجال للقوى المحافظة لتدبير الشأن العام، حتى وإن فازت الأخيرةُ في انتخابات نزيهة تعكس إرادة الناخبين.
إذا كان وجود قطاع مجتمعي محافظ في المغرب يزعج اليسار الإصلاحي، فهو يتحمل جزءا غير يسير في ذلك، بإخفاقه في قراءة منعرجات الواقع المغربي طوال العقود الماضية، ونأيه عن الالتحام بقضايا الناس وانشغالاتهم الأساسية، وعجزه عن تقديم اجتهاداتٍ فكريةٍ وسياسيةٍ وتنظيميةٍ تخدم أسئلة وقضايا الديمقراطية في المغرب.
كان من الطبيعي أن تنعطف قوى اجتماعية كثيرة في اتجاه اليمين، بعد إخفاق هذا اليسار في تنزيل ''استراتيجية النضال الديمقراطي'' التي تبناها منذ منتصف السبعينيات، وكان يُفترض أن تكون لها واجهتان: سياسية تنبني على العمل من داخل مؤسسات النظام في أفق دمقرطته وتحديثه، ومجتمعية لا تقل أهمية عن سابقتها، وتنهض على منازلة الواقع واستيعاب مشكلاته المختلفة، والفعل فيه عبر الإسهام في تأطير الرأي العام وتنظيمه وتنمية حس المشاركة لديه عبر القنوات الأهلية. وعوض المراهنة على الواجهة المجتمعية، فضّل هذا اليسار، كما نعلم، العملَ من خلال الواجهة الأولى التي حوّلته، مع مرور الوقت، إلى مجرد حزبٍ عادي يزاحم الأحزاب الإدارية على امتيازات الريع السياسي ومنافعه.
ما نعيشه اليوم ليس إلا تحصيل حاصل، فَلِمَ يتباكى اليسار الإصلاحي على ارتماء المجتمع المغربي في أحضان اليمين الديني المحافظ، وهو الذي يتحمل قسطا من المسؤولية في ذلك، خصوصا داخل أوساط الطبقة الوسطى التي كانت تشكل حاضنته السوسيو مهنية؟ كيف يمكننا مساءلة اليومي، حسب تعبير المالكي، من دون معرفته والاشتباك بتعرّجاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟
ثم إذا كانت الديمقراطية لا تُختزل في الانتخابات، فما جدوى الانتخابات إذن؟ وإذا كان مُتعالمون من هذا اليسار يلوّحون، في اجتهاداتهم السخيفة هاته، بالنقاشات التي يعرفها الفكر السياسي الغربي بشأن أزمة الديمقراطية التمثيلية، فلا مجال، إطلاقا، للربط بين هذه النقاشات والسياق المغربي أو العربي بشكل عام، على اعتبار أن هذه الأزمة تخصّ مجتمعاتٍ باتت تعاني من تزايد تدخل الاقتصاد في السياسة وتوجيهها بما يخدم مصالح الرأسمال، وبالتالي فهي ليست أزمتنا، لأننا ببساطة ما زلنا لم نستوعب، بعدُ، الديمقراطيةَ، مفهوماً وقيمةً وآليةً، لتنظيم الصراع الاجتماعي وتدبير الاختلاف وبناء التعاقدات الوطنية والأهلية. لا تزال بالنسبة لنا ورشا مفتوحا للتعلم والتمرين والمراكمة. علينا أولا هضم أبجدياتها وقوانينها، والعملُ على إشاعتها وتوسيع امتداداتها في مجتمعاتنا الغارقة في التخلف والتقليد.
من هنا، كان المالكي ''صادقا''، حين رأى أن قرار حزبه بالمشاركة في الحكومة الحالية جاء نتيجة قراءة جريئة للواقع الحالي، فهشاشةُ المشهد الحزبي، وضعف النخب وانتهازيتها وعجزها عن فهم الواقع، كل ذلك لا يسمح باحترام إرادة الناخبين، أيا كانت اختياراتهم الفكرية
والسياسية. ولذلك، تقتضي القراءة ''المنطقية'' لهذا الواقع الالتفاف على نتائج الانتخابات، وإهانة الناخبين وخلط الأوراق، عوض العمل على احترام هذه النتائج، ومراكمة رصيد انتخابي يساعد على التَّمثل التدريجي للفعل الديمقراطي.
ليس ما قاله المالكي، في الواقع، إلا تبريرا ومسوّغا للركوب على الموجة، والقفز إلى سفينة السلطة في لحظة فارقة، والالتفاف على الإرادة الشعبية التي (ويا للمفارقة) كان يحتل احترامُها حيزا مهما في وثائق حزب الاتحاد الاشتراكي وأدبياته، هذا من دون أن نُغفل أن ما فاه به المالكي فيه أيضا تبرير، على قدر غير يسير من الضحالة، لحصوله على رئاسة مجلس النواب الحالي، في وقت حلَّ فيه حزبه سادساَّ في الانتخابات سالفة الذكر.
أسقطت التطورات السياسية أخيرا في المغرب ورقة التوت عن نخب اليسار المغربي، وكشفت ازدواجية تعاطيها مع قضية الديمقراطية التي تحولت، بالنسبة لها، إلى مجرد خطاب يتم تكييفه حسب متطلبات كل مرحلة.