حاشية أدبية بشأن 5 حزيران

حاشية أدبية بشأن 5 حزيران

11 يونيو 2017
+ الخط -
التفتت فضائياتٌ وصحفٌ عربيةٌ إلى اكتمال خمسين عاما على الهزيمة المشهودة في حرب 1967، وحضرت المناسبة فيها جيدا، وقد أضاءت مجدّدا على الحدث، باستضافة خبراء ومختصين، واستكشاف وثائق وحقائق جديدة وأخرى منسيّة ومهملة. وباستثناء مبادرة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في تنظيمه أوسع مؤتمر أكاديمي وعلمي عن الحرب، باستعادتها بعد خمسين عاما، لم تنشغل جامعة عربية أو مركز ثقافي بجديةٍ بتوفير إضاءات متجدّدة على الهزيمة، والمأمول أن تكون الندوة الحوارية المفتوحة التي يقيمها في برلين، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، وتختتم اليوم، مساهمةً طيبةً في هذا كله. ولكن، ليس العساكر والسياسيون والمؤرخون وحدهم من "يختصون" في الحديث عن تلك الهزيمة للأحلام العربية، فأدباءُ وكتّابٌ عربٌ ساهموا، وهم من أهل الانشغال بالوجدان العربي العام والتعبير عنه، في تفكيك أبعادها الثقافية والسياسية الأعمق، وإنْ لا يجوز التعامي عن الحقيقة الأوضح، أن المسؤولية الأولى عن "5 حزيران" إنما هي على الجيوش العربية التي شاركت في الحرب، بأدائها الفضيحة. 

صدرت نتاجاتٌ إبداعيةٌ عربيةٌ غير قليلة، بعيْد الهزيمة (وقبلها)، كانت لها قيمتها الثقافية العالية في الإحالة إلى الحال العربي، آنذاك، على مستوياتٍ أخرى، غير العسكرية الظاهرة طبعا، ولا يصدُر التأشير إليها هنا عن أوهام المثقف العربي بشأن دوره، وعن اعتبار خطاباتٍ راجت طويلا الأديب، الشاعر والمسرحي والروائي، صاحبَ نبوءةٍ، وكشّافا، رؤاه وحده هي التي تشخّص الواقع وتفهمه، فيما الآخرون، من علماء سياسة وخبراء وأهل اختصاصٍ في الاجتماع وعلوم العسكرية، أقلّ كعبا منه. لا شيء من هذا هنا، وإنما الفكرة، بإيجاز (وارتجالٍ ربما؟) أن الدّرس في أسباب هزيمة 1967 وتفاصيلها يحسنُ أن لا يغفل عن الجانب المتحدّث عنه، بأن يتم اكتراثٌ بالذي تم التعبير عنه في نصوصٍ روائيةٍ ومسرحيةٍ وقصصيةٍ، وصفتها مطالعاتٌ بأنها حزيرانية، وهي وفيرة، غير أن الدراسات النقدية والتوثيقية التي اعتنت بها ظلت ناقصة، ولم تستوف القراءاتِ العميقة في تفكيك هذه النصوص في مجرىً عربيٍّ عريض.
ربما هناك حاجةٌ، في ذكرى الخمسين عاما وفي غيرها، لمطالعاتٍ جديدة، ومتجدّدةٍ، في تلك الأعمال والنصوص، لإطلالاتٍ، مثلا، على "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، عمل سعد الله ونوس المسرحي، الطليعي الباقي، والذي مثّل، عند إصداره في 1968، ولا يزال، ابتكارا في الكتابة المسرحية والمشهدية العربية، إذ يكسر البنية التقليدية لها، وينفتح على مغامرةٍ تجريبيةٍ جذّابة، ما عنى أن أطروحة ونوس، في عمله البديع ذاك، ليست في مضمونه والأنفاس الغاضبة فيه فقط، وإنما أيضا في الشكل الذي نهض عليه. وقد بدا إشهار المسدسات نحو المتفرجين في العمل ذروة التعبير عن القوة القامعة للذين يتجادلون بشأن الهزيمة وحال المجتمع.
يُعتنى كثيرا بمركزيّة هذا العمل المسرحي في موضوعة حزيران في الإبداعات العربية التي انشغلت بالهزيمة على نحو أو آخر. ويؤتى على "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" لممدوح عدوان (1972)، و"المخططون" ليوسف إدريس (1966)، وغيرهما، كما على غير روايةٍ، لنجيب محفوظ وغسّان كنفاني وغيرهما، وعلى غير قصيدة، وإنْ حازت "هوامش على دفتر النكسة" على شهرةٍ عالية، وقد تردّد أن صاحبها نزار قباني مُنع بسببها من دخول مصر في حينه. أما "ستة أيام"، رواية السوري اللبناني حليم بركات، والتي صدرت في 1961، فإنها قرئت بعد الهزيمة، أي بعد ستة أعوام على صدورها، بأنها اشتملت على نبوءةٍ بالحرب. ولهذه الرواية قيمتها العالية فنيا، قبل حكاية النبوءة تلك، وإنْ أفرطت، إلى حدٍ ما، بالتعبير عن تمرّد فردي، في سياقٍ اجتماعي عربي، وبدت إدانةً لغياب تحرّر المرأة (ومنه الجنسي). وقد تخيّلت الروايةُ مدينةً عربيةً غير موجودة، تدور الأحداث فيها، وتنتظر مساعدةً في حربها عدوا غير منظور.
مقطع القول، هنا، إن الأدب العربي اشتمل على كثيرٍ مما يستحق الالتفات إليه بشأن هزيمة حزيران، أسبابا ومقدماتٍ، يحسن التنويه به، بالنقد والدرس والتفكيك، بموازاة كثيرٍ من الكلام السياسي والتوثيقي والميداني العسكري الذي لا يلزم أن يتوقف بعد انقضاء مناسبة الخمسين عاما.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.