حراك المجال الديني في مصر

حراك المجال الديني في مصر

11 يونيو 2017
+ الخط -
ألقت التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التي وقعت في مصر خلال العقديْن الماضييْن، بجانب التفاعلات السياسية الإقليمية والدولية، ظلالاً كثيفةً على الحراك داخل المجال الديني، عبر أكثر من مستوى، خرج عن إطار ثنائية المؤسسة الدينية الرسمية وجماعات الإسلام الحركي وتنظيماته التي هيمنت على المجال الديني المصري عقوداً، فقد تراجع دور الأولى لعّدة أسباب، أهمها وقوعها في أسر القبضة الدولتية و"تأميم" الدولة خطابها، ما أحدث فراغاً كبيراً ساهم، بجانب تلك التحوّلات، في ظهور فاعلين جدد في المجال الديني، تنوّع خطابهم بظهور تمايزاتٍ بينيّة بينهم، كما ساهمت تلك التحوّلات في ظهور أنماط جديدة من التديّن، تختلف عن الأنماط التقليدية الشائعة. 

أحدثت السياسات اليمينية النيوليبرالية لحكومات رجال الأعمال الذين مثلّوا الرافعة الأساسية لمشروع "التوريث"، موجة كبيرة من الخلخلة الطبقية، أدّت إلى استقطابٍ اجتماعيٍ صارخٍ، بين طبقةٍ تقطن القبور والعشوائيات وأخرى تقطن القصور والمنتجعات أو المجتمعات المخملية المغلقة التي يُطلق عليها "المركبّات" أو (الكومباوندات)، والتي أثّرت أذواقها وميولها الاستهلاكية، والترفيهية، والروحية، في صياغة مساحات تغيير في المجال العام.
وكان لهذا الاستقطاب الاجتماعي صداه على الخطاب الديني، حيث ساهم، مع أسباب أخرى، في ظهور فئةٍ من الدعاة الشباب، أُطلِقَ عليهم "الدعاة الجدد"، من ذوي الخطاب الوعظي البروتستانتي "المنزوع الدسم"، القائم على تعزيز الجانب الأخلاقي لدى تلك الطبقة النيوليبرالية الجديدة بصفة خاصة، عبر التربيت على نزعتها الاستهلاكية المتطرّفة، مع محاولته، في الوقت نفسه، تشذيبها وتهذيبها وكبح جماحها، وتفريغ الطاقة الروحية للمُترَفين والمُتخَمين من أبناء تلك الطبقة، عبر نشر ثقافة "الصدقات والتبرّعات"، ودعوتهم إلى المشاركة في الأعمال الخيرية.
حرص خطاب "الدعاة الجدد" على التوقّف عند هذه النقطة، من دون الصدام مع المنظومة القيمية لتلك الطبقة، لأنّه خطاب متصالح تماماً مع قيم السوق، فهو لا يتحدّث مطلقاً عن خطورة الاحتكار، أو تحقيق العدالة الاجتماعية، كما أنّه متعايشٌ، إلى أبعد حدّ، مع قيم المجتمع 
الاستهلاكي، وغاية ما يمكن أن يفعله هو محاولة "أسلمة" النزعات الاستهلاكية، بإضفاء غُلالة "إسلامية" على المنظومة النيوليبرالية، وإنتاج نمط جديد للتديّن، يقوم على النجاح الإداري، وتحقيق الذات الفردي، وفق قيم العولمة، ومعايير الـ"management"الأميركية، وهو ما تعرّض له الباحث السويسري، باتريك هايني، تفصيلاً في كتابه "إسلام السوق".
وفي المقابل، ظهر فاعل جديد انتشر سريعاً في المجال الديني، وهو التيار السلفي الذي ساهمت عدّة عوامل في تمددّه في الفضاء الإسلامي، في مقدمتها الحملة التي قادها بوش الابن والاحتلال الأميركي أفغانستان والعراق، ما استدعى معادلاً "هوياتياً" للحضور من أجل مواجهة الخطاب المُتطرّف للمحافظين الجُدد، وموازنة الخطاب "المُتميّع" للدعاة الجدد، بالإضافة إلى شعور شريحةٍ كبيرةٍ من أبناء الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا بالظلم الاجتماعي، والاغتراب، والتهميش، نتيجة عدّة عوامل، أهمها الأزمات الاجتماعية المتعدّدّة، وعجز قدراتهم الاستهلاكية المحدودة عن مجاراة موجة الجنون الاستهلاكي التي تلاحق الناس بحملاتٍ إعلانية عاتية، لاسيّما بعدما رفعت الدولة يدها، وتخلّت عن واجباتها الاقتصادية والاجتماعية، فكانت مهمة الخطاب "المُتسلِّف" من جهة تأكيد الذات الحضارية للأمّة، ومن جهة أخرى، عمِلَ على تفريغ شحنة الغضب المكبوتة لدى الطبقات المغبونة والفقيرة، وتوجيهها نحو مسار التمسّك بالشكليات الدينية، عبر نشر فقه "التنطّع والتشدّد"، أو حالة "التديّن اليابس"، القائم على أولويات استيفاء "اللحية والنقاب"، بالتزامن مع الإلحاح بخطاب الزهد، وثواب الصبر على الفقر وشظف العيْش. والطريف هنا أنّ أغلب هؤلاء الدعاة يعيش عيشة "البارونات"، حيث يخرج أحدهم على الناس في فضائياتٍ تدفع له أجراً باهظاً، وبالعُملة الصعبة أحياناً، وهو يركب ما يركبه، ويرتدي ما يرتديه، ويقطن ما يقطنه، ثمّ يطالب الشباب بالزهد في "متاع الدنيا" (!).
أمّا الأطرف فهو محاولة ذلك الخطاب تدشين "كهنوت إسلامي"، عبر تأكيده على سمات "الفرقة الناجية"، وصفات "الطائفة المنصورة" التي يحتكر المتنطّعون المُتسلّفون تمثيلها حصرياً، مع الإلحاح الشديد بقضايا أخرجوها من كهوف التراث وقبور التاريخ، تمثّلت في حديث بعضهم المُسهِب عن الخلافات التاريخية بين الحنابلة والمعتزلة، وما تفرّع عنهم من أشاعرة وماتريدية في باب الأسماء والصفات، والمقصود هنا غمز الأزهر، ومهاجمته بصورة ضمنية، كونه معقل الأشاعرة وفق السردية السلفية (!).
هذا مع صرف المُتلَقين تماماً عن أي مسار سياسي، أو اهتمامٍ بالشأن العام، من أجل الحفاظ
على مسافةٍ فاصلة مع جماعات الإسلام الحركي، وللحؤول دون استثمارها التجنيدي في الأرضية السلفية، حيث كان التشديد على أنّ طاعة أولي الأمر صفة أصيلة من صفات "السلف الصالح"، وأنّ معارضة السلطات تقع تحت بند "الخروج على الحاكم" (يوجد هنا تفاوت داخل التيار السلفي حيث يمثّل "المدخلية" أقصى اليمين المتطرّف)، أمّا الأدهى أنّ بعضهم صاغ تلك الرؤية على أرضية العقيدة القائمة على مبدأ "الولاء والبراء"، (وليس الشريعة القائمة على "المصالح والمفاسد")، حيث تعددّت الفتاوى الشرعية للمشايخ المُتسلّفين التي رأت أنّ الديمقراطية "كُفر"، وبتحريم كل ألوان العمل السياسي من دخول الأحزاب، إلى التصويت في الانتخابات باعتبارها مخالفة "عقدية" (!).
وجاءت ثورة 25 يناير لحظة كاشفة لمصداقية كلّ الفاعلين في المجال الديني، فقد أسقطت ثورة يناير كثيراً من تلك "الأيقونات المقدّسة" (أو بالأدق الأصنام) سواء على مستوى الأفراد المُتصدّرين، أو على مستوى الجماعات والتنظيمات، وكشفت أنّها لم تكن أكثر من مجرّد أساطير ورقية، و"فقاقيع"هوائية، صنعها التجريف والفراغ، سرعان ما انفقعت في لحظة الاختبار الحقيقي، عندما وقعت غالبية تلك "الرموز" الكارتونية في أخطاء وتناقضات ذاتية فادحة، بالمعنى الأخلاقي قبل السياسي، عبر وجود فجوةٍ كبيرةٍ تفصل بين الأقوال والأفعال، فقد كشفت ثورة يناير عن مدى ضحالة الوعي الفكري والسياسي لبعضهم، وعن مدى السقوط الأخلاقي للآخرين، فما كان كُفراً وحراماً أمس، صار بين عشيّة وضحاها حلالاً زلالاً، والطريف أنّ الحاليْن المتضاديْن كانا باسم "الكتاب والسنّة"، من دون أدنى حياء أو خجل (!).
كانت المحصّلة وقوع موجة مدّ إلحادي لا تخطئها العيْن، لاسيّما في الشرائح الشبابية، وحالة من النفور تجاه الدين، تنوّعت مظاهرها بين مظاهر هادئة خافتة، وأخرى صاخبة زاعقة، وصل صداها إلى صفوف شباب الإسلاميين، وهو ما يستدعي دخول المجال الديني في حالةٍ من إعادة الهيكلة الشاملة، تكون الخطوة الأولى فيها تحرير الأزهر من القبضة الدولتية الأمنية التي تسعى إلى إحكام سيطرتها عليه بشكل فجٍّ، فقد دفعنا ثمناً باهظاً، ولازلنا، لإضعاف الأزهر وتأميم خطابه وتغييب دوره.