في "مطبخ زرياب"

في "مطبخ زرياب"

02 يونيو 2017
+ الخط -
سئل الباحث والمؤرخ والمترجم، والكاتب التقدّمي حقا، والشاعر السابق، فاروق مردم بيك، عن دواعي كتابته "مطبخ زرياب"، فبسط ثلاثة أسبابٍ، أولها أنه يحبّ بطنَه. ... هو من أهم الكتب الشائقة في ثقافة الطعام، ومن أرفعها لغةً، وربما كان الأغنى عربيا في ما اشتمل عليه. وحسنا فعل الكاتب السوري في إجابته تلك، وفي صنيعه المتقن في كتابه الذي أنجزه بالفرنسية، ثم صدر بالعربية بترجمة جان ماجد جبور التي راجعها كاظم جهاد والمؤلف (مشروع كلمة، أبوظبي، 2015). وحاز الكتاب تقريظا وفيرا استحقّه، وهذا ما تفعله هذه السطور، فتشجّع على انتقائه وقراءته، لما فيه من إفادةٍ ومؤانسة. لا يعرّفك فقط بمأكولاتٍ كيف تعدّها، فهذا مطروحٌ في كتبٍ ذائعةٍ وكثيرة، وفي برامج تلفزيونية بلا عدد، وإنما يُحيطك بمعرفةٍ بتاريخ ما تأكل، وبأهم ما قيل فيه وعنه، وبأساطير ومروياتٍ ومحكياتٍ متصلة به. هو كتابٌ في التاريخ الاجتماعي والثقافي للطبيخ، تطوفُ، وأنت تقرأه، بين حضاراتٍ وشعوبٍ وأساطير، منذ ما قبل الميلاد إلى حيث مطرحك الآن، في الشام أو الخليج أو المغرب الأقصى، بل وفي تركيا وإيران واليونان و... أيضا. 

شحيحةٌ الكتب بالعربية من الطراز الذي خاض فيه فاروق مردم بيك، وقد صحّت إشارته إلى أننا، نحن العرب، نستخفّ بالجانب الثقافي والتاريخي للطبيخ، فيما الكتب فيه غير قليلة في أوروبا وأميركا. وفي البال أن كتابا للتشيلية إيزابيل الليندي، سمّته "أفروديت" ونقله رفعت عطفة إلى العربية (دار ورد، 2000)، اشتمل على كثيرٍ من هذا، غير أن الذي صنعه صاحبنا يلعب أعمقَ وأعمقَ في شؤون الباذنجان والزعفران والتمر والأرز والفول والمشمش واليقطين والطماطم والتين والتفاح والعنب والبرغل والفستق والحمص والأرضي شوكي. إنه يقدّم مرافعاتٍ ومطالعاتٍ، على مقادير ظاهرةٍ من النباهة والطرافة، في تاريخ كل واحدة من هذه الثمار والنبتات والخضروات. وفي إضاءاته عليها، وعلى الطناجر واللحوم والتوابل وعادات الغذاء بشأنها، يتباسط معك، ويمسك العصا من المنتصف أحيانا، فيرضي الأوروبيين والشوام والخليجيين والمغاربيين، وفي الوقت نفسه لا ينسب إليهم ما لم يطبخوا. وإذ سمّى المؤلف نفسه زرياب، إعجابا منه بالموسيقي الفارسي الأرومة، العراقي المولد، والذي علّم أهالي قرطبة إعداد المآكل البغدادية، ففي ذلك إيحاءٌ بإيقاعات البهجة وانتقالاتها في الكتاب، وأظنه أفلح في مقصده هذا، ذلك أن أكثر من مزاجٍ سيغشاك، وأنت تقرأ أن العالم يعرف الآن ثمانية آلاف صنفٍ من العنب، وأن أهل حلب يحضّرون الكبّة بستين طريقة مختلفة، وأن من عادات قبائل البامبارا في أفريقيا الغربية أكل حبّة طماطم قبل ممارسة الجنس، وأن أحد باعة التوابل في ألمانيا، في العام 1344، ارتكب "جريمة" بيع العُصفر على أنه زعفران، فعوقب بإحراقه حيا مع بضاعته الفاسدة في وسط السوق.
ولمّا صرنا في شهر رمضان، حيث ينتعش الحديث عن الأكل والطعام، والمخلّلات والحلويات، فإن لقراءة "مطبخ زرياب" نفعاً غزيراً في هذا، إذ يتوفر على كيفيات إعداد مأكولاتٍ متنوعة، أظنها تحتاج براعةً خاصة، منها يخنة الباذنجان من الجزائر وفتّة المكدوس السورية والبطاطا الحلوة بالزعفران المغربية والعجّة الإسكندرانية من سورية ومرقة المشمش التونسية وسبانخ بالزيتون من الجزائر والأرز بدبس التمر الخليجي والمقلوبة الفلسطينية وتِمّن الزعفران من العراق واليلنجي بالبندورة السورية وحلاوة الرز اللبنانية والمسفوف المغربي واللحم بالزبيب والعسل من الجزائر ويخنة الفول الأخضر التونسية.. وغير ذلك كثير. وليس أبدع في الكتاب من محاججات صاحبه مع قدامى ومحدثين، في الدفاع عن الباذنجان، مثلا، ضد ما لحق به من إهانة، فيردّ على الرازي الذي "زعم" أن الباذنجان رديء للعين والرأس. أما قول الرازي إن التّفاح يولّد النسيان، فإن "زرياب" يجد في هذا مديحا، فحسناتُ النسيان أكثر من سيئاته في هذا القرن الرهيب..
ليس أسوأ بشأن الكتب الرائقة من الإيجاز المخلّ لها، وليس أنسبَ لها من غير النصح بقراءتها. وفي "مطبخ زرياب" إجلال للذائقة، واستطعام لما تأكل، وإحاطةٌ وافية به، .. وكلنا نحبّ بطوننا، كما فاروق مردم بيك، متّعه الله بالصحة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.