لماذا تفرض موسكو حظرا على نفسها؟

لماذا تفرض موسكو حظرا على نفسها؟

10 مايو 2017
+ الخط -
حفلت الأزمة السورية، على امتداد السنوات الست ونيف من عمرها، بمفارقات عديدة، وتناقضات شديدة، بلغ بعضها حد الغرابة، وإن كانت مفهومةً تمامًا بلغة المصالح، من ذلك مثلاً أن دولاً "محافظة" دعمت الثورة في سورية، وأنظمة "ثورية" وقفت في وجهها، لا بل سعت إلى وأدها. ومن ذلك تغير مواقف بعض الدول والأحزاب وانقلاب أدوار بعضها الآخر بصورة حادّة، بحيث غدا بعض الحلفاء خصوماً، وأصبح بعض الخصوم حلفاء، ووقف بعض اليسار الثوري في وجه الثورة، ورفع بعض اليمين المحافظ السلاح دفاعاً عنها، هذا من بين أمثلةٍ كثيرة يمكن ذكرها. 

المفارقة التي شهدنا بعض فصولها أخيرا، في سلسلة مفارقات الأزمة السورية، تمثلت باتفاق أستانة، الذي توصلت إليه الدول الراعية للحرب في سورية لإنشاء مناطق تهدئة أو خفض للتصعيد (De-escalation Zones). أصل الاتفاق مبادرةٌ روسية، تلقفتها تركيا خلال اجتماع القمة، أخيرا، بين الرئيسين بوتين وأردوغان في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود، ومثلت محاولةً جديدة لاستعادة زمام المبادرة على الأرض، وفي السياسة، بعد فشل الاتفاق الروسي-التركي لوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أنقرة أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
واقع الأمر أن المبادرة الروسية جاءت إشكالية وغير مفهومة، لجهة دوافعها، وانقلاب موقف الكرملين فيها، فمن جهةٍ طرحت روسيا فكرةً تركية ظلت تقاومها منذ بداية الأزمة، وهي إقامة مناطق آمنة (Safe Zones)، دع جانباً مسألة إنشاء مناطق لحظر الطيران (No Fly Zones) أرادتها أنقرة لتأمين إقامة اللاجئين داخل الأراضي السورية، وحماية جيوب المعارضة من القصف الجوي الذي نكّل بالمدنيين والثوار. لا بل استخدمت روسيا، وبشكل متعمد، القصف الجوي استراتيجيةً لاقتلاع أكبر عدد ممكن من المدنيين من أراضيهم ودفعهم في موجات هجرة ولجوء كبيرة باتجاه أوروبا، بهدف تفكيك الاتحاد الأوروبي، ومعاقبة الأوروبيين، خصوصا الألمان، على مواقفهم من الأزمة الأوكرانية، فكيف تطرح روسيا الآن مبادرة حظر الطيران إذاً؟
وتغدو المفارقة أكبر، إذا لاحظنا أن الطيران الروسي هو الطيران الوحيد (إلى جانب طيران النظام) الذي يحلق ويقصف في المناطق الأربع التي تمت الإشارة إليها في اتفاق أستانة، وكأن روسيا تفرض حظرًا على نفسها، ما يجعل الأمر أكثر صعوبة لجهة التفسير، إذ كان في وسع روسيا، ببساطة، أن توقف طيرانها عن القصف في هذه المناطق، من دون الحاجة إلى إعلان حظر طيران. فلماذا تفعل ذلك؟
يبدو صعباً فهم المبادرة الروسية خارج سياق العودة الأميركية القوية إلى الساحة السورية، فمبادرة تخفيض التصعيد جاءت بعد استهداف قاعدة الشعيرات، ما عزّز مخاوف روسيا من احتمال حصول تغيرٍ في المقاربة الأميركية تجاه الصراع في سورية، في ضوء توجه إدارة ترامب المعلن نحو "قصقصة" النفوذ الإيراني في المنطقة، ابتداء من سورية. وقد بدا واضحاً، منذ اللحظة الأولى لإعلانه، مدى اهتمام روسيا بالحصول على التزامٍ من واشنطن بدعم اتفاق أستانة والعمل به. إذ صرح المبعوث الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتيف، بأن بلاده تتوقع من الولايات المتحدة احترام مناطق الحظر في الاتفاق، وهذا ما دفع الروس أيضاً إلى الذهاب إلى مجلس الأمن لاستصدار قرارٍ يرحب باتفاق أستانة، ما يعني أن المبادرة لم تكن سوى محاولةٍ لتثبيت الوقائع التي حققتها روسيا على الأرض خلال العامين الماضيين، ومنع أي تغيير جذريٍّ عليها، من خلال تقييد حركة واشنطن في الأجواء السورية، وهو أمرٌ ما كان ليمرّ على البنتاغون الذي رفض صراحةً الالتزام بمناطق الحظر الروسية.
يبقى سؤالٌ مهم، متصلٌ بموقف إسرائيل من الاتفاق، وما إذا كانت ستلتزم به في ضوء التفاهم الذي أبرمه نتنياهو مع بوتين، خلال زيارته الأولى إلى موسكو بعد التدخل الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، وسمح لإسرائيل بحرية الحركة في الأجواء السورية، بناء على مقتضيات مصلحتها الأمنية. فهل يقبل نتنياهو تقييد حركة الطيران الإسرائيلي في سوريةـ من دون أن يكون جزءاً من اتفاق أستانة؟ هذا السؤال برسم الروس والإيرانيين وكل "محور المقاومة" الملحق بهما للإجابة عليه.